بقلم: روبرت ماهوني
من حكومة منبوذة إلى شريك محتمل. هذا هو المدى الذي انتقلت عبره السلطات السعودية في مواقف الرئيس جو بايدن خلال خمس سنوات منذ أرسلت السلطات السعودية فرقة موت لتقطيع أوصال الصحفي جمال خاشقجي.
وتبدو الجهود الجارية التي تبذلها الإدارة الأمريكية لإعادة تأهيل المملكة التي يقوم اقتصادها على البترو-دولار وتأهيل حاكمها الفعلي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بأنها تضع سياسات المصلحة فوق الهدف المعلن للرئيس بايدن بتحقيق العدالة للصحفي الذي كان يكتب في صحيفة ’واشنطن بوست‘.
إن تبعات تجاهل هذا الالتزام لتحقيق مكاسب استراتيجية واقتصادية قصيرة الأجل هي تبعات كارثية على الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، وليس فقط في السعودية وإنما على الصعيد العالمي. ويمثل التقاعس عن السعي لتحقيق العدالة لخاشقجي، الذي كان مقيماً دائماً في الولايات المتحدة، إشارة إلى الأنظمة القمعية بأنه حتى أقوى الديمقراطيات الغربية ستخفف حماسها لحماية الصحفيين إذا رأت أن ثمة مصالح سياسية واقتصادية تحت الرهان.
وإذا كان يمكن تقطيع أوصال صحفي بارز من قبيل خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول وبإفلات ظاهر من العقاب، فما هي فرصة تحقيق العدالة للصحفيين المغمورين إذا ما قاموا بتحدي الحكام المستبدين في تغطيتهم الصحفية؟
تمتلئ جدران غرف الأخبار في جميع أنحاء العالم بصور زملاء لقوا حتفهم على يد حكومات أو عصابات الجريمة المنظمة الذين سعوا لمنع سرد الحقيقة. وفي ثماني من كل عشرة من هذه الحالات، أفلت الذين أمروا بالقتل من قبضة العدالة.
وبدا لفترة قصيرة أن جريمة قتل خاشقجي قد تكون مختلفة من حيث إخضاع المسؤولين عنها للمساءلة، فالوحشية الشديدة التي انطوت عليها الجريمة، حيث قام فريق إعدام مؤلف من 15 رجلاً بتقطيع أوصال خاشقجي، اجتذبت عناوين الأخبار في العالم.
وحتى إدارة الرئيس ترامب الممالئة للسعودية اضطرت لاتخاذ إجراءات بعد أن أعلن جهاز المخابرات التركي، الذي كان قد زرع أجهزة تجسس في القنصلية السعودية، بنشر بعض تفاصيل جريمة الاغتيال التي حدثت في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2018. وقد فرض الرئيس دونالد ترامب عقوبات على بعض السعوديين المرتبطين بجريمة القتل، بيد أنه لم يوجه اتهاماً مباشراً لولي العهد السعودي رغم أن جهاز المخابرات الأمريكي استنتج بأنه صادق على ارتكاب الجريمة.
وفي السنة التالية، تعهد جو بايدن الذي كان مرشحاً للرئاسة آنذاك، وخلال مناظرة انتخابية للحزب الديمقراطي، بأن يسعى لتحقيق العدالة وأن يجعل السلطات السعودية “منبوذة”.
وحال فوز الرئيس بايدن بالرئاسة في عام 2021، أفرج عن تقرير غير منشور أصدرته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بيد أنه، مثل الرئيس ترامب، أحجم عن فرض عقوبات مباشرة على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، ذهبت إدارة الرئيس بايدن إلى الإعلان عن أن ولي العهد السعودي محصّن وفقاً للحصانة السيادية. وقد أدى ذلك فعلياً إلى إجهاض الدعوى القضائية المدنية التي رفعتها خطيبة خاشقجي، خديجة جنكيز، في المحاكم الأمريكية والتي سعت إلى اعتبار محمد بن سلمان واثنين من كبار مساعديه مسؤولين عن قتل خاشقجي.
وإذ تيقّن الأمير محمد بن سلمان أن الحكومات الغربية لن تتخذ إجراءات ضده، شرع في بناء سمعة جديدة له بوصفه مصلحاً سياسياً من جيل الألفية وصديقاً للابتكارات التقنية. ووفقاً لصحيفة ’ذي غارديان‘، أنفقت السعودية أكثر من 6 بلايين دولار لعقد صفقات رياضية دولية وفي رعاية الفرق الرياضية، وذلك في إطار خطة دعاها الناقدون بأنها سعي لتبييض السمعة من خلال الرياضة. كما سعت السعودية إلى استمالة شركات التقنيات الأمريكية في وادي السيليكون، وهي تخطط إلى إنفاق 500 بليون دولار في تطوير مدينة مستقبلية على امتداد شريط ساحلي على البحر الأحمر لتكون مقصداً للشركات والسياحة.
وقد ازدادت شعبية ولي العهد السعودي في الوطن إذ عمل على تخفيف القيود الدينية والاجتماعية وسمح للنساء بقيادة السيارات.
ولكن فيما يتجاوز حملات العلاقات العامة، تظل السعودية إحدى البلدان الأكثر قمعاً للحريات في العالم، وفقاً لمؤسسة ’فريدوم هاوس‘ الأمريكية التي تعمل على رصد الحقوق في العالم. وكان يقبع في سجون المملكة حوالي 11 صحفياً بحلول يوم 1 كانون الأول/ ديسمبر 2022، وفقاً للإحصاء السنوي للصحفيين السجناء في العالم الذي تعده لجنة حماية الصحفيين، كما يوجد في سجون المملكة عشرات المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء الاجتماعيين. ويُعتبر توجيه النقد للحكومة السعودية ولولي العهد السعودي أمراً خطيراً، حتى عندما يصدر عن مواطنين سعوديين فروا إلى خارج بلدهم.
وقال لي فريد رايان، وهو الناشر والرئيس التنفيذي السابق لصحيفة ’واشنطن بوست‘، “نشعر نحن الذين بقينا نطالب بالعدالة لجمال [خاشقجي] بالخذلان. فقد استنتجت إدارة جمهورية [على رأس السلطة في الولايات المتحدة] بأن المسؤولية عن الجريمة تقع على كاهل أعلى المستويات في الحكومة السعودية. كما وصف بايدن عندما كان مرشحاً للرئاسة ولي العهد السعودي بأنه منبوذ. أما السؤال فهو، هل تغيّر أي شيء؟”
وقد تكون الإجابة، جزئياً على الأقل، أن السلطات الأمريكية رأت بأنها تحتاج السعودية لتتصدى للتأثير الإيراني والصيني في الشرق الأوسط ولضمان استقرار أكبر في سوق النفط بعد الاضطرابات التي حدثت في أعقاب حرب روسيا ضد أوكرانيا.
وتسعى الإدارة الأمريكية أيضاً إلى إقناع الأمير محمد بن سلمان بالاعتراف بأهم حليف أمريكي في المنطقة، إسرائيل، وذلك عبر صفقة على نموذج الاتفاقيات الإبراهيمية التي توسط الرئيس ترامب في إبرامها بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب.
تطالب السعودية بثمن مرتفع مقابل موافقتها على هذه الصفقة، بما في ذلك إبرام معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، وأن تساعدها الولايات المتحدة في بناء برنامج مفاعل نووي سلمي. وقد أدى الهجوم الفتاك وغير المسبوق الذي شنته حركة حماس الفلسطينية ضد إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر والاستجابة الإسرائيلية إلى إبطاء أي صفقة سلام طموحة مع إسرائيل، إن لم يكن إنهاء آفاقها تماماً.
إلا أن استعداد ولي العهد السعودي حتى للتفكير بمثل هذا الاقتراح يُعتبر تذكيراً بأن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بنفوذ في المنطقة.
وإذا كانت السلطات السعودية تريد ضمانات أمنية أمريكية أو دعماً غربياً في مساعيها لاستضافة فعاليات كبرى من قبيل مباريات كأس العالم لكرة القدم في عام 2034 أو الألعاب الأولمبية، فيمكن للديمقراطيات الليبرالية حينها استغلال هذه الفرص، فبوسعها المطالبة بالإفراج عن السجناء من الصحفيين والنشطاء السياسيين في البلد وإنهاء المضايقات ضد ناقدي الحكومة السعودية المقيمين في الخارج.
وبوسع الحكومة الأمريكية أن تفرض تنفيذ القانون بشأن القيود على منح تأشيرات السفر التي أعلنت عنها وزارة الخارجية الأمريكية في أعقاب جريمة قتل خاشقجي. ويمكنها أيضاً أن تدعم مبادرات من قبيل مشروع القانون الذي قدمه عضو الكونغرس الأمريكي آدم شيف لحماية المعارضين المنفيين من حكومات بلدانهم.
إن تجاهل جريمة قتل خاشقجي لتحقيق مصالح دبلوماسية هو خطأ.
وقال فريد رايان، “يراقب الحكام المستبدون كيف تستجيب الولايات المتحدة عند انتهاك الحقوق الأساسية التي نؤمن بها. أما الإشارة التي يلتقطونها حالياً فليست مشجّعة للصحفيين”.