إن الصحافة في أفغانستان الحالية جريحة ولا شك، ولكنها أبعد ما تكون عن الميتة. والأدلة على ذلك تظهر كل يوم، بل كل ساعة:
- عُقد مؤتمر صحفي في كابول قدمه الرئيس السابق حامد كرزاي في شباط/ فبراير، وكانت القاعة مليئة بالصحفيين، إذ كان يوجد 12 كاميرا تلفزيونية على الأقل وعدة مراسلين صحفيين لوسائل إعلام متنوعة يسعون للحصول عل موضع ملائم في آخر القاعة لتسجيل الانتقادات اللاذعة التي وجهها كرزاي إلى الإدارة الأمريكية بعد أن صادرت 3.5 بلايين دولار من احتياطات العملة الأجنبية لأفغانستان ومنحتها لضحايا هجمات 11 أيلول/ سبتمبر ضد الولايات المتحدة.
- عندما وقع زلزال قوي في إقليم باكتيكا في شرق أفغانستان في حزيران/ يونيو وأدى إلى مقتل أكثر من 1,000 شخص وتدمير منازل وأسر وقرى بأكملها، كانت الكاميرات التلفزيونية الأفغانية متواجدة هناك، وأرسلت صوراً ومعلومات للمشاهدين في جميع أنحاء العالم.
- وفي حزيران/ يونيو أيضاً، توجّهت وكيلة مفوض الأمم المتحدة السامي لشئون اللاجئين، كيلي كليمنتز، في زيارة إلى أفغانستان. وفي ذلك الوقت، أحصيتُ تسعة ميكروفونات على الأقل موجهة نحوها، وكانت جميعها، ما عدا واحداً أو اثنين، تتبع لمنظمات إخبارية أفغانية.
- وفي تموز/ يوليو، أوردت وسائل الإعلام الأفغانية تغطية إعلامية بشأن مؤتمر لعلماء دين في شرق أفغانستان طالب بتوفير التعليم لجميع البنات، إضافة إلى تغطية بشأن أحداث أخرى من قبيل زيارة قام بها رجال دين باكستانيون إلى أفغانستان سعياً للحصول على مساعدة من حركة طالبان من أجل التوصل إلى إنهاء سلمي لحركة التمرد التي تشنها حركة طالبان الباكستانية في المنطقة الحدودية لباكستان انطلاقاً من قواعد في أفغانستان.
وهذه ليست صحافة من المستوى الذي كان موجوداً قبل سيطرة حركة طالبان على السلطة في آب/ أغسطس الماضي، ولكنها مع ذلك صحافة، وهي تتطلب احترامنا ودعمنا. أما الزعم بأن الصحافة ماتت في أفغانستان فيمثل إهانة للأفغان الشجعان الذين يواصلون التغطية الصحفية، وتحرير المواد الإخبارية وبثها رغم صعوبة الظروف.
خلال العقود الثلاثة التي عملت فيها في أفغانستان، شهدتُ الكثير من الفظائع – والعديد من ارتُكب على يد إدارة التحالف السابق بقيادة الولايات المتحدة. وقد نفذت الميليشيات المرتبطة بهذه الإدارة مذابح عندما حكمت خلال الفترة بين عامي 1992 و 1996. وقد أدى القتال بين هذه الميليشيات إلى مقتل ما يصل إلى 50,000 شخص، معظمهم مدنيون. وقد رأيت أجساد نساء تعرضن للاغتصاب والتشويه، ورأيت بعض الأطفال الذين قُتلوا أو جرحوا من جراء الألغام التي تركتها جماعات المجاهدين المتحاربة. مع ذلك لم يكتفِ المجتمع الدولي بالانهماك معها، بل أقام معها شراكات أيضاً.
ويتمثل الواقع اليوم بأن حركة طالبان تمسك بزمام السلطة، وتحكم مجتمعاً محافظاً بشدة يسير وفق تقاليد قبلية صارمة لم تمنح النساء على مر قرون سوى نزراً ضئيلاً من الحرية، أو لا حرية بتاتاً. مع ذلك، أقامت حركة طالبان وزارة المعلومات والثقافة، وثمة بعض الأصوات القوية في القيادة تبدو مستعدة للانهماك مع الآخرين. (وحتى قبل سيطرة حركة طالبان على السلطة، كان العديد من الصحفيين يتصلون بوكيل وزارة المعلومات الحالي، ذبيح الله مجاهد). وليس من السهل أن يكون المرء صحفياً في أفغانستان – والأمر أسوأ للصحفيات – بيد أنه ليس أمراً مستحيلاً.
ويواجه بعض من قادة حركة طالبان صعوبة في الانتقال من الحرب إلى الحكم، لذا قد يكونون راغبين بإعادة الزمن إلى الوراء. وعندما حكموا في المرة الماضية بين عامي 1996 و2001، حظرت الحركة التلفزيون والتصوير الفوتوغرافي، ولم يكن يغطي الأخبار سوى وكالة أنباء واحدة تسيطر عليها الحكومة. وحينها لم يكن يوجد في البلد سوى جهاز كمبيوتر واحد في جنوب قندهار، وكان من النادر تشغيله. ولكن أفغانستان الآن ليست ما كانت عليه عام 1996. فقد باتت شبكة الإنترنت جزءاً من نسيج العالم حالياً، وأصبحت أفغانستان معتادة على توفّر عدد كبير من القنوات التلفزيونية الإخبارية والصحف والمحطات الإذاعية التي لم تكن موجودة من قبل، إضافة إلى شبكات التواصل الاجتماعي التي ازدهرت في أفغانستان – رغم العيوب التي تعتري هذه الشبكات وما تنشره من أكاذيب.
وثمة مقاومة حالياً لقمع الحريات الذي تمارسه حركة طالبان، ولم تكن هناك مثل هذه المقاومة عندما حكمت الحركة في المرة الماضية. ففي أيار/ مايو، عندما قال ناطقون باسم حركة طالبان بأنه يتوجب على النساء تغطية وجوههن، حتى عند ظهورهن على شاشة التلفزيون، قام مقدمو البرامج الذكور في تلفزيون ’طلوعنيوز‘ بوضع أقنعة على وجوههم لمدة أربعة أيام احتجاجاً على هذه التعليمات.
إن عدد النساء اللاتي يعملن في وكالة ’طلوعنيوز‘ يتزايد. وفي أعقاب سيطرة حركة طالبان على السلطة في آب/ أغسطس الماضي، فر معظم العاملين في تلفزيون ’طلوع تي في‘ من البلد، وتُقدِم هذه القناة التلفزيونية مواد ترفيهية إضافة إلى الأخبار. ولكن مدير وكالة ’طلوعنيوز‘، خبالوك ساباي، قرر البقاء في أفغانستان وجعل مهمته تعيين نساء للعمل عندما تتطابق مؤهلاتهن مع مؤهلات الذكور المرشحين لأداء العمل نفسه. وقبل أن تعود حركة طالبان إلى السلطة، كان يعمل في وكالة ’طلوعنيوز‘ 79 موظفاً، كان منهم 11 امرأة من بينهن 8 صحفيات، حسبما أخبرني به مالك الوكالة، سعد محسني. وفي الوقت الحالي، يعمل في الوكالة 78 شخصاً، بينهم 21 امرأة جميعهن صحفيات. وقال محسني، تظل تشكيلة الموظفين تتغير باستمرار، لكن الوكالة واصلت توظيف نساء بأعداد أكبر.
وهذا لا يعني أن العمل الصحفي يظل دون كلفة، فقد احتجزت السلطات خبالوك ساباي واثنين من زملائه في آذار/ مارس بسبب تقرير صحفي حول قرار أصدرته طالبان بحظر جميع المسلسلات الأجنبية. كما تعرض صحفيون آخرون للاعتقال والضرب بسبب قيامهم بعملهم فقط.
مع ذلك فإن كل صحفي أفغاني يخرج من منزله في الصباح وهو غير متأكد ما سيجلب له اليوم، وهو يكون مستعداً لمواجهته. ففي أحد الأيام قد يكون الأمر صدور مرسوم جديد يقيد حرية المرأة، وفي يوم آخر قد يكون تصرفات تعسفية من وكالة المخابرات—على شاكلة ما تفعله العديد من أجهزة المخابرات في جميع أنحاء العالم—إذ تقوم باعتقالات تعسفية. وفي أيام أخرى، وفيما يخص الصحفيات، فقد يواجهن مضايقات لمجرد أنهن نساء.
ويواجه الصحفيون في أجزاء عديدة من عالمنا الذي يتزايد فيه الاستقطاب والغضب ظروفاً صعبة مماثلة. ومع ذلك، فإنهم يخرجون يومياً ويؤدون عملهم قدر استطاعتهم، ويعيدون التأكيد يومياً على ما يعنيه أن يكون المرء صحفياً في بلد يحكمه نظام قمعي يعرّف الصحافة بوصفها الامتثال لنسخة واحدة من الحقيقة.
وهذا ما يفعله الصحفيون الأفغان يومياً.
وإذ أتأمل في السنوات الـ 20 التي لم تكن فيها حركة طالبان في السلطة، أتيقن بأن قطاع الإعلام تنامى بخطى مذهلة. فقد انتشرت القنوات التلفزيونية الإخبارية بسرعة، وكان عدد الشباب الذين يرغبون بأن يصبحوا صحفيين مُلهماً فعلاً. بيد أن الخروج الجماعي للصحفيين الذي رافق انهيار الحكومة الأفغانية المدعومة من الغرب يستدعي طرح أسئلة حول التدريب الذي تم توفيره، وحول مدى الدعم ونوعيته الذي تم تطويره خلال هذين العقدين.
إن المبدأ الأساسي للصحافة هو الاستقلالية، ولكن في أفغانستان ما بعد عام 2001، أصبح التوسع في قطاع الأخبار، إلى حد ما، امتداداً لمهمة التحالف بقيادة الولايات المتحدة. وبالتالي، كان هذا القطاع مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالحكومة الجديدة آنذاك وبالمجتمع الدولي الذي ساعد على صعود تلك الحكومة إلى السلطة.
وكان بعض الصحفيين ناقدين بشدة لقادتهم المدعومين من الغرب، وتحدثوا بشجاعة عن الفساد الذي شلّ التقدم، ومع ذلك توصلوا إلى قناعة، سواء عن وعي أم لا، بأن بقاءهم مرتبط ارتباطاً لا تنفك عُراه ببقاء الحكومة—وأن العمل الصحفي كان ممكناً في ظل بعض الحكومات وليس حكومات أخرى.
بيد أن تلك القناعة خاطئة، فقد باتت الحاجة إلى الصحفيين الأفغان الآن أكبر من أي وقت مضى، وهم بحاجة إلى مساعدة في داخل أفغانستان. لقد تعرّض بعض الصحفيين للتهديد كما باتوا يخشون على حياتهم، لكن لا يمكن أن يكون الجواب الوحيد هو الإخلاء، فليس من الممكن إخلاء كل امرأة وكل صحفي. وفي نهاية المطاف، لا يمثل الإخلاء الاستراتيجية المفضلة في أي من البلدان الأخرى التي يواجه فيها الصحفيون تهديدات. فأفغانستان، مثل سائر البلدان، تحتاج صحفيين ليقولوا الحقيقة أمام السلطة.
لقد كان من السهل تشجيع الصحفيين في أفغانستان ورعايتهم عندما كانت الحكومة والمجتمع الدولي يريدان أن تزدهر الصحافة. وقد تدفقت مئات ملايين الدولارات إلى البلد لتحقيق هذه الغاية. إلا أن الأموال تتدفق إلى الخارج حالياً والمساعدات المتوفرة للصحفيين في أفغانستان محدودة.
بالتالي، ما الذي يمكننا فعله؟ عندما كان التحالف بقيادة الولايات المتحدة يشرف على أفغانستان، واجه الصحفيون تهديدات من جراء التفجيرات والقتل المستهدف—وليس فقط على يد حركة طالبان. وكان المراسلون الصحفيون يحصلون على سترات واقية من الرصاص وخوذات وتدريبات على العمل في مناطق النزاعات لمساعدتهم في الحد من الأخطار. وتأتي التهديدات حالياً من نظام طالبان القمعي والمتعنّت، ويحتاج الصحفيون تجهيزات جديدة للحد من الأخطار الجديدة.
ليس ثمة إجراءات سريعة وبسيطة لإصلاح الوضع، وهو ما ترغب به السلطات في الغرب عادة، ولكن يمكننا البدء في دراسة الإمكانيات. فقد يكون الصحفيون الأفغان قادرين، مثلاً، على التعلم من الآخرين الذين عملوا ضمن ظروف صعبة شبيهة. وثمة مراسلون صحفيون في جميع أنحاء العالم ممن يعلمون حق العلم كم هو مخيف أن يعمل المرء في بيئات قمعية—كما يعملون أفضل الطرق للتعامل مع الأخطار. ويمكن الاستعانة بهم وإقامة صلات بينهم وبين صحفيين في أفغانستان. وسيكون هناك حاجز لغوي ولا شك، ولكن يتوفر العديد من المترجمين الموهوبين، بما في ذلك في أفغانستان. وفي حين تختلف الظروف في المناطق المختلفة من العالم، إلا أنه توجد أوجه شبه بين الأخطار التي يواجهها الصحفيون. وسيكون من الخطأ التقليل من قيمة التواصل البسيط بين الصحفيين الذين يواجهون مشاكل خاصة بهم.
وما هذا سوى شكل واحد من الدعم المهني. وثمة نهج ثانٍ يتمثل في الدعم العاطفي، إذ يمكن الاستعانة بفريق من المرشدين الاجتماعيين لتوفير آذان صاغية صديقة وصوت مهني لتقديم أنواع مختلفة من الإرشادات. وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء المهنيون خارج البلد. فكثيراً ما ننسى في الغرب أننا لا نحتكر المعارف والمواهب. وتتمتع أفغانستان بمخزون هائل من الناس الماهرين الأذكياء—وبعضهم لم يغادر البلد قط، ولا حتى للدراسة. وتتمتع الجامعات في أفغانستان بتاريخ تفخر به وقد خرّجت مهنيين موهوبين، حتى في أحلك الأوقات. وهناك أطباء، ومعالجين نفسيين، وأساتذة جامعات ممن يمكنهم، ربما، العمل مع خبراء في الصدمات من أماكن أخرى، ليتمكنوا بالتالي من توفير الإرشاد للصحفيين الأفغان عندما يحتاجونه، وإذا احتاجوه.
ختاماً، يجب على الجماعات التي تناصر الصحافة أن تتوجه إلى أفغانستان وأن تؤسس مكاتب فيها لتكتسب فهماً أفضل لبيئة العمل هناك. وعليها التحدث مع قادة حركة طالبان—والانهماك معهم. فلن يتأتّى أي خير من الامتناع من التحدث معهم.
وحتى في أفضل الحالات، ليست الصحافة ميداناً سهلاً. ولكن من دونها فإننا نظل رهائن للأكاذيب، وتموت الحقيقة، أما الحكام الذين يسعون لتشويه الواقع وقمع الحريات الفردية—مهما كانوا وأينما كانوا—فهم الرابحون.
عملت كاثي غانون على تغطية الأخبار من أفغانستان وباكستان كمراسلة صحفية ورئيسة مكتب في وكالة ’أسوشيتد برس‘ لمدة تزيد عن ثلاثة عقود، من عام 1988 وحتى أيار/ مايو 2022. وستشغل منصب زمالة جوان شورنستين في مركز شورنستين في كلية كينيدي بجامعة هارفرد أثناء فصل الخريف من عام 2022. الآراء الواردة هنا تُعبّر عن وجهة نظرها فقط.
عملت كاثي غانون على تغطية الأخبار من أفغانستان وباكستان كمراسلة صحفية ورئيسة مكتب في وكالة ’أسوشيتد برس‘ لمدة تزيد عن ثلاثة عقود، من عام 1988 وحتى أيار/ مايو 2022. وستشغل منصب زمالة جوان شورنستين في مركز شورنستين في كلية كينيدي بجامعة هارفرد أثناء فصل الخريف من عام 2022. الآراء الواردة هنا تُعبّر عن وجهة نظرها فقط.