في وقت متأخر من مساء السادس عشر من سبتمبر/ أيلول من عام 2000، غادر الصحفي الاستقصائي الأوكراني جورجي غونغادزي البالغ من العمر 31 عاماً منزل زميل له في كييف وعاد أدراجه نحو منزله حيث كانت زوجته وابنتاه الصغيرتان بانتظاره. لكنه لم يصل إلى منزله أبداً.
مؤخراً، قالت زوجته ميروسلافا غونغادزي، وهي تعود بذاكرتها إلى الوراء: “في اليومين الأولين كان الأمر ضبابياً بالفعل. وكنت كأني محبوسة في صحراء منسية، ولم أكن أعرف ما الذي عليَّ فعله”. وبعد أيام من اختفاء زوجها، استبعد مسؤولون محليون وجود دافع سياسي وراء اختفائه على الرغم من النقد اللاذع الذي كان يكيله للحكومة الأوكرانية. وفي منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، تم التعرّف على جثة الصحفي محترقة ومقطوعة الرأس، وفي غضون أسابيع من ذلك سرّب أحد قادة المعارضة تسجيلاً صوتياً لما بدا أنه محادثة بين رئيس البلاد آنذاك ليونيد كوتشما ومسؤولين كبار آخرين حول السبل الممكنة “للتعامل” مع غونغادزي. وهكذا قررت ميروسلافا غونغادزي، والتي تعمل محامية، التدخل. ولو لم تتقدم ميروسلافا غونغادزي -وهي الشخص الأكثر تضرراً من جريمة القتل هذه- طليعة النضال من أجل كشف الحقيقة، لما تقدم لها أحد قط، حسب قولها.
وعملت غونغادزي متسلحة بمعرفتها القانونية وشبكة من العلاقات الإعلامية ودافع قوي مع مجموعة من الصحفيين المحليين والدوليين ومنظمات تعمل في مجال حقوق الإنسان من أجل إقامة دعوى قضائية وإطلاق حملة عامة. مضى الآن خمسة عشر عاماً، أُدين أربعة مسؤولين سابقين بالقتل فيما حكمت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأن الحكومة الأوكرانية مسؤولة عن مقتل الصحفي. وعلى الرغم من نجاحها، تقول غونغادزي أنها مرت بأوقات كانت مستعدة فيها للانسحاب حيث “أردت تغيير اسمي والاختفاء وتغيير حياتي وأردت أن أصبح شخصاً مختلفاً. ثم أدركت أن هذه هي من أريد أن أكونها. هذه أنا”.
منذ بداية عملي مع لجنة حماية الصحفيين في عام 2005، التقيت وعملت مع عدد من النساء الأخريات من مختلف أنحاء العالم ممن أصبحن، مثل ميروسلافا غونغادزي، شخصيات بارزة في الحملات المؤيدة لحرية الصحافة. إنهن أمهات وزوجات وبنات وأخوات وصديقات وزميلات صحفيين فُقدوا أو احتُجزوا رهائن أو أصيبوا أو أودعوا السجون أو قُتلوا. وعلى الرغم من وجود نظراء ذكور لهن إلا أن أكثرية من التقيت بهم من المشاركين في هذه الحملات كانوا من النساء. تنحدر تلك النساء من بلدان وخلفيات مختلفة على الرغم من أن معاركهن الشخصية انبثقت جذورها عن قصص شخصية. إنما يجمعهن، في النهاية، التزام لا يلين من أجل الحقيقة والعدالة التي تسمو فوق تلك التجارب الخاصة.
فهل يمثل النوع الاجتماعي أساس التزامهن؟ ظاهرياً، قد يؤيد تكرار الحالات الشبيهة بحالة ميروسلافا غونغادزي هذا الاتجاه، لكن عند التحدث معها ومع أخريات خُضنَّ معارك مماثلة، ستجد أن النوع الاجتماعي لا يلعب دوراً يمكن التبوء به. تتميز النساء بنمط ما، لكنهن أيضاً يثرن تناقضات في تحليلهن للسبب الذي دفعهن إلى تصدر الحملات في بعض من أبرز حالات الاعتداءات على الصحفيين.
أجريت في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2015 مقابلات مع أربع نساء ممن انقلبت حياتهن رأساً على عقب من جراء حدث وحيد مدمر؛ حدثٌ حولهن في غضون أيام -بل في ساعات في واحدة من الحالات- من زوجات أو أمهات أو صديقات إلى محاربات بطريقة ما. وكانت غايتي من مقابلتهن هي أن أحلل بدقة القصص والاستراتيجيات التي شهدتها ساحة المعركة كي أتمكن من فهم الدور الذي لعبة النوع الاجتماعي على هذا الصعيد. وقد تحدثت مع غونغادزي وسانديا إكنيليغودا زوجة رسام الكاريكاتير السريلانكي براجيث إكنيليغودا، وديان فولي والدة الصحفي الأمريكي المستقل جيمس فولي الذي أُخذ رهينة وقُتل بوحشية في سوريا، وسوليانا س. غبريمايكل، وهي عضو مؤسس في مجموعة ‘مدوني المنطقة 9’ الإثيوبية (زون ناين) التي أمضى العديد من زملائها أكثر من سنة في السجن.
واحدة فقط من هؤلاء الأربعة، هي إكنيلغودا، قالت لي إن النوع الاجتماعي كان عاملاً أساسياً في الصراع الذي خاضته. أما الروايات الأخرى فقد كانت أقل وضوحاً في هذا الصدد. وقالت كل من فولي وسوليانا (التي تُنادى ككثير من الإثيوبيات باسمها الأول فقط) إن النوع الاجتماعي لا يشكل محركاً لهذا النوع من المعارك التي خاضتاها، وذلك على العكس من روح الرفض والالتزام. في الواقع، قالت فولي إن ابنها “بطل” وإن “جيمس هو الذي يجعلني قادرة على الاستمرار” مضيفة بأنه أصبح عندها شغف بتحقيق العدالة لقضيته.
بالنسبة لغونغادزي، لم يكون جنس المحاربين هو المؤثر بل جنس أولئك الذين يحاربون نيابة عنهم. وقالت غونغادزي “أعتقد أن أغلبية الصحفيين الذين يقعون في المخاطر هم من الرجال”. هذا الاعتقاد تؤيده الأرقام التي تجمعها لجنة حماية الصحفيين عن جرائم قتل الصحفيين؛ فقد كانت نسبة الذكور من الصحفيين الذين قُتلوا منذ أن بدأت اللجنة بتتبع حالاتهم في عام 1992 والذين بلغ عددهم 1,175 صحفياً 93 في المائة. وتساءلت غونغادزي “من بقي إذن كي يقاتل من أجلهم؟” واستدركت مجيبة من فورها “نساؤهم”.
عندما تغيّب براجيث إكنيليغودا، وكان شديد النقد لحكومة الرئيس السابق ماهيندا راجاباسكا، عن منزله يوم 24 يناير/ كانون الثاني 2010، أي قبل بضعة أيام من الانتخابات الرئاسية في البلاد، سارعت سانديا إكنيليغودا إلى مركز الشرطة المحلية للإبلاغ عن فقدانه. وقد سخر الضباط هناك منها وقالوا لها إنه ربما كان مع امرأة أخرى أو أنه فبرك عملية اختفائه، حسب قولها، لكنها ظلت مثابرة. ففي وقت لاحق من الشهر ذاته، قابلت المراقب الأعلى لقوات الشرطة، لكنه استبعد مخاوفها هو الآخر، وعندئذٍ سجلت شكوى لدى مفوضية حقوق الإنسان في سريلانكا. وعندما ظل الصمت مطبقاً، بدأت إكنيليغودا بكتابة رسائل إلى مسؤولين كبار. وعندما لم تحصل على أية ردود منهم، تقدمت بطلب استصدار مذكرة إحضار تطلب فيها معرفة مكان تواجد زوجها أو إحضار جثته. ولكن أخفقت هذه المحاولة أيضاً، لذا اتجهت إكنيليغودا إلى المجتمع الدولي وشرعت في سلسلة من أنشطة الظهور العام في مختلف أنحاء العالم لتسليط الضوء على قضية زوجها.
في يناير/ كانون الثاني من عام 2015، أُجريت في سريلانكا انتخابات رئاسية مبكرة حيث هزم مرشح المعارضة مايثريبالا سيريسينا على نحو مفاجئ راجاباسكا الذي كان يسعى للفوز بفترة رئاسية ثالثة. في هذا الوقت، كان بحث إكنيليغودا عن الحقيقة في قضية زوجها قد تعاظم وأصبح مهمة عالمية لإظهار الحقيقة ليس بالنسبة لزوجها والصحفيين الآخرين وحسب، بل وبالنسبة لآلاف السريلانكيين المفقودين الذين أصبحت المتحدثة الرسمية نيابة عنهم بحكم الأمر الواقع. وقد تعهد سيريسينا، فور انتخابه تقريباً، بإعادة فتح ملفات المفقودين والصحفيين المقتولين، وبحلول الوقت الذي تحدثت فيه مع إكنيليغودا عام 2015، كان خمسة من ضباط الجيش ومدنيان قد أوقفوا لصلتهم باختفاء براجيث إكنيليغودا.
أقدم رجال مسلحون على اختطاف الصحفي الأمريكي المستقل جيمس فولي في سوريا يوم عيد الشكر عندما كان في طريق عودته إلى تركيا. وظل مكان تواجده مجهولاً حتى 19 أغسطس/ آب 2014 عندما نشر تنظيم الدولة الإسلامية تسجيلاً مصوراً عبر شبكة الإنترنت يظهر فيه قتل الصحفي بقطع رأسه بوحشية، وذلك كإنذار وردٍ على حكومة الرئيس الأمريكي باراك أوباما. وبناء على طلب من والدي فولي، ديان وجون فولي، لم يتم الإعلان عن اختفائه للعموم حتى يناير/ كانون الثاني من عام 2013 حيث أطلقا حملة من الرسائل الصوتية في مسعى للإفراج عنه. وفي الحال، أصبحت ديان فولي الصوت المعبر عن عائلات الرهائن الأمريكيين.
وبعد مقتل ابنها على هذا النحو الوحشي، قررت فولي التي حطمها الحادث ألا تتوقف عن نضالها. وقالت لي أثناء مكالمة هاتفية أثناء عودتها إلى منزلها من واشنطن العاصمة بعد إدلائها بشهادتها أمام الكونغرس الأمريكي “ما كنت لأترك إنساناً استثنائياً للغاية كجيمس يذهب في طي النسيان”. وفي غضون ثلاثة أسابيع من مقتل ابنها، كانت قد انتهت من الإجراءات الورقية اللازمة لتأسيس مؤسسة ‘جيمس دبليو فولي ليغاسي فاونديشن’ وهي مؤسسة تناصر القضايا التي كان ابنها متحمساً لنصرتها: كمساندة الرهائن الأمريكين، ومنح حقوق أكثر للصحفيين المستقلين، وتوفير تعليم أفضل للشباب الفقراء.
لغاية الآن، كان للسيدة فولي ومؤسستها يدٌ في إحداث تغييرات مهمة في قضيتين من هذه القضايا الثلاث. ففي شباط/ فبراير من عام 2015، اتفق ائتلاف مكون من إداريي الأخبار وجماعات حرية الصحافة وصحفيين أفراد، ومن بينهم لجنة حماية الصحفيين، على صياغة مبادئ عالمية لسلامة الصحفيين المستقلين. وقد وقَّع على هذه المبادئ حتى الآن 78 منظمة. وبعد أربعة أشهر أعلنت إدارة الرئيس أوباما إجراء تعديلات على سياسة الولايات المتحدة المتعلقة بالرهائن. وبحسب ما أوردته تقارير الأنباء، فإن تعديل هذه السياسة سيسمح للمسؤولين الحكوميين بالتواصل والتفاوض مع الجماعات التي تحتجز رهائن ومساعدة العائلات الأمريكية على القيام بالشيء ذاته فيما ستنسق “خلية التحام” مؤلفة من مختلف الوكالات لاستعادة الرهائن جهود تحرير الأسرى الأمريكيين. وعلى الرغم من أن هذا التقدم كانت مشجعاً للسيدة فولي، إلا أنها لن تصدق أن تغييراً حقيقياً حدث إلا عند النجاح في إعادة أحد الرهائن الأمريكيين إلى أرض الوطن.
* * *
أوقفت السلطات الإثيوبية في أديس أبابا ستة مدونين شباب ينتمون إلى مجموعة مستقلة تُعرف باسم ‘زون 9’، أي المنطقة 9. في ذلك اليوم، كانت سوليانا، وهي عضو مؤسس في هذه المجموعة، مسافرة خارج البلاد. ومن العاصمة الكينية، نيروبي، ظلت سوليانا مطلعة على أحداث ذلك اليوم بالوقت الحقيقي من خلال صديقها وزميلها زيلاليم كيبرت إلى أن تم توقيفه هو الآخر. في مساء ذلك اليوم، وبعد أن اتصلت هاتفياً مع عائلات جميع أصدقائها، عملت سوليانا مع عضو آخر مؤسس لزون 9 هو إندالك تشالا الذي كان أيضاً خارج البلاد، على إصدار بيان صحفي يطالب حكومتهما بالإفراج عن زملائهما، حسبما ذكرته لي من منزلها الجديد في ولاية ميريلاند الأمريكية. وقالت إنهما أطلقا بعد ذلك حملة ضخمة على وسائط التواصل الاجتماعي تحت وسم بعنوان #FreeZone9Bloggers.
وفي يوليو/ تموز من عام 2015، أي بعد أكثر من عام على اعتقال أعضاء مجموعة المنطقة 9 وقبل عدة أسابيع من زيارة الرئيس أوباما إلى إثيوبيا، أطلقت السلطات الإثيوبية سراح اثنين من المدونين. وبعد ذلك بثلاثة أشهر أخلت سبيل البقية. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني، منحت لجنة حماية الصحفيين مدوني زون 9 الجائزة الدولية لحرية الصحافة.
لقد وضعت سوليانا ونساء أخريات ممن أجريتُ معهن مقابلات، هدفاً واضحاً نصب أعينهن منذ البداية، إلا أن استراتيجيات حملاتهن -حسبما أخبرنني به- كانت توضع في حينه وليست بتخطيط مسبق. في الأسبوع الذي تلا اختفاء زوج ميروسلافا غونغادزي، وفي ظل عدم اتخاذ السلطات المحلية أية إجراءات أو إعطائها إجابات واضحة، أقنعها أصدقاؤها، وكانت مشتتة مرتبكة، بعقد مؤتمر صحفي. وفي المؤتمر الصحفي ظهرت غونغادزي برفقة ابنتيها التوأم وكانتا في الرابعة من عمرهما وأبلغت الصحفيين بأن زوجها لم يعد إلى بيته. ثم طالبتهم بالتحرك. وقالت “قلت لهم إنه يتوجب عليهم مساندتي وأنه يتوجب على الوسط الصحفي مساندتي. قلت لهم اليوم دوره وغداً يأتي دوركم”. وأوضحت قائلة “إلا أنه لم تكن لدي أية استراتيجية حقيقية إلى أن أدركت أنه لن تكون هناك عدالة في أوكرانيا. ومن ثم أصبح لدي استراتيجية وطالبت بإجراء تحقيق خاص بدعم من [الاتحاد الدولي للصحفيين، ومراسلون بلا حدود] ولجنة حماية الصحفيين. وقد أعددنا تقارير عن سير التحقيق. كما أجرينا تحليلاً لكافة احتمالات اللجوء إلى آليات العدالة الدولية”. وفي نهاية المطاف أقامت غونغادزي دعوة قضائية في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ومقرها في ستراسبورغ الفرنسية، ادعت فيها أن الحكومة أخفقت في حماية زوجها وطلبت بالتحقيق في مقتلة على النحو المناسب. وفي عام 2005، وجدت المحكمة أن الحكومة الأوكرانية مسؤولة عن مقتل جورجي غونغادزي وحكمت لزوجته بمبلغ 100,000 يورو، أي ما يساوي حوالي 118,000 دولار أمريكي آنذاك، تعويضاً عن الأضرار التي لحقت بها.
لعب اهتمام وسائل الإعلام كذلك، سواء أكان مقصوداً أم عفوياً، صالحاً أم طالحاً، دوراً محورياً في هذه الحملات. وقد أقامت كل واحدة من تلك النساء، بكاريزميتيها الخاصة، علاقة معقدة مع الإعلام وشملتها برعايتها. بالنسبة لغونغادزي وإكنيليغودا، كان دور زملاء زوجيهما حاسماً، حيث أخبرتاني أن الصحفيين المحليين كانوا من بين أقرب حلفائهما فيما لم يساعد الإعلام الدولي والمحلي فقط في نشر دعواتهما لتحقيق العدالة، بل عمل باستمرار على تسليط الأضواء على ما تقومان به من أعمال.
وقالت لي إكنيليغودا في حديث عبر موقع سكايب من داخل مطبخ منزلها في كولومبو بسريلانكا حيث قام ابنها المراهق بدور المترجم بيننا إن “ثمة الكثير من المتعاطفين في الوسط الإعلامي مع ما أقوم به، وبالطبع هناك آخرون من غير المتعاونين”. وأضافت “لكن لدي أصدقاء كثيرون في الإعلام ممن يفهمونني ويعملون على إشهار قضية براجيث. وثمة دعم كبير يُقدم لي كشخص وللقضية التي أحارب من أجلها. وهناك أيضاً ارتياح ورضا من حيث استمرار الإعلام في تعاطفه. إن إبقاء القضية في الواجهة الإعلامية أمر غاية في الأهمية”.
وتختلف قضية سوليانا قليلاً عن الأخريات من حيث النهج الإعلامي الذي اتبعته. فعلى امتداد معظم فترة الثمانية عشر شهراً التي أمضاها أصدقاؤها الستة في السجن، عملت سوليانا مع مدونين آخرين – هما إندالك الذي يعيش في الولايات المتحدة وخومانيكس كاسايي الذي نجح في الهرب من إثيوبيا حيث استقر منذ ذلك الحين في السويد- على الدعاية للقضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقالت سوليانا “كانت استراتيجيتنا تركز على إظهار الصحفيين بصفتهم بشراّ: أعضاء الأسرة والأصدقاء … إلخ، وليس بصفتهم سياسيين. إذ كنا نريد إظهار الجانب الإنساني فيهم فاستخدمنا وسائل التواصل الاجتماعي لنروي حكاياتهم كي تعلق تلك الحكايات في أذهان الشباب من أبناء البلد”. وتقول سوليانا إن الهدف النهائي من حملتهم على وسائل التواصل الاجتماعي كان إطلاع المجتمع الدولي والشعب الإثيوبي باستمرار وإشراكه في الدعوات المنادية بإطلاق سراح المدونين.
وعلى الرغم من قول سوليانا إن إندالك وخومانيكس شاركاها المسؤولية عن الحملة، كما في المدونة التي أفضت إلى حبس المدونين، قال إندالك إن كاريزمية سوليانا عملت على خلق قضية عامة قوية ولكن حظيت بحب وتعاطف الناس، من أجل الإفراج عن زملائهم. وأوضح إن سوليانا “يسعدها أن تشرك أي شخص مباشرة عبر شبكة الإنترنت أو بغير الشبكة”. وفي إطار استراتيجيتها تلك، سلطت سوليانا الضوء على قضية مدوني المنطقة 9 في الاجتماعات مع المنظمات الدولية وكبار المسؤولين ومن ضمنهم الرئيس أوباما ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري.
من وجهة نظر إندالك، كانت سوليانا القوة التي أبقت على وجود المجموعة. وقال لي إن “النوع الاجتماعي مهم جداً وأعتقد أنه مرتبط مباشرة بدورها في المدونة والحملة”. وأضاف قائلاً إنه “حتى قبل أن نبدأ، وقبل التوقيف، كانت سولي تتقن تماماً تنظيم الأشياء وكانت تقوم بدور قيادي مهم للغاية في الجمع بين أعضاء المجموعة. إنها كثيرة التطلب ومعاييرها عالية جداً، فهي دائما ما تطلب منا إنتاج الأشياء. حتى عندما كنا نذكرها بأن هذا عمل تطوعي كانت تظل تضغط. وقد استمرت بهذا الدور بعد اعتقال [الزملاء]”.
على الرغم من الدعم الاستراتيجي الخارجي المتنامي، الذي تعتبره غونغادزي وإكنيليغودا وسوليانا ضرورياً لنجاحهن، إلا أن حملاتهن ما كان ليُكتب لها أن تجتاز ذلك الشوط الطويل بنجاح دون ما يمكن وصفه بأنه نوع من أنواع التفاني اللانهائي الذي أبدينه. وعندما سألت غونغادزي بأية عبارة تحب أن تصف العمل الذي قامت به، قالت إن “السعي من أجل إحقاق العدالة لجورجي كان كل حياتي. ليس وصف آخر له”.
وقد ذكرت النساء الأربع إن التفاني والعاطفة والمشاعر الشخصية القوية هو ما كان يحركهن -تلك مفاهيم يصعب تعريفها كما قالت لي غونغادزي. وكذلك الحال بالنسبة لدور النوع الاجتماعي فهو أمر يصعب قياس مداه. وأشارت فولي إلى حقيقة أن النساء قد يكنّ عاطفيات جداً، “ولكن الرجال قد يكونوا عاطفيين أيضاً”. وأصرت إكنيليغودا على أن “النساء يشعرن بالعلاقات بطريقة مختلفة عن الرجال. وهناك فرق واضح حتى في الطريقة التي يفكر بها الرجال والنساء بشأن هذه الأوضاع. يميل الرجال إلى الاستسلام بعد وقت معين، لكن النساء يواصلن الكفاح”.
هذا الكفاح بحد ذاته -بصرف النظر عن الدافع الذي يحركه- ضريبة دفعتها هذه النساء الأربع. إذ تركت كل من إكنيليغودا وسوليانا عملهما على الفور تقريباً كي يكرّسن وقتهن كله للحملات. وفي كلتا الحالتين، كان هذا القرار يعني الاعتماد بشدة على الدعم المالي الخارجي. قالت سوليانا إنها اضطرت للتقدم بطلبات لدى المنظمات الدولية للحصول على منح مستعجلة حيث أدارت المال المتوفر من هذه المنح لتسديد نفقات الحملات والاحتياجات الأساسية لعائلات المدونين الذين أودعوا السجن. وتلقت إكنيليغودا دعماً مماثلاً، لكن تمويل حملتها التي امتدت لسنوات مع إعالة أسرتها -كما أخبرتني- جعل من الطريق الوعر نحو العدالة أكثر وعورة، محاكية بذلك تجربة غونغادزي.
وقالت إكنيليغودا إن الصعوبات المالية كانت من بين المصاعب الأكبر التي واجهتها. وفي مقابلة أجريتها معها عام 2012، ذكرت لي إكنيليغودا، وقد بدا عليها الألم واضحاً، أن الأصدقاء والأقارب الخائفين تخلوا عنها وابنيها بعد اختفاء زوجها. وبعد تركها لوظيفتها المكتبية التي كانت تعمل فيها بدوام جزئي وانقطاع دخل زوجها، أُجبرت على التوجه نحو التبرعات من أفراد معنيين بالأمر ونحو المنظمات الدولية من أجل الحصول على الدعم المستعجل، بما في ذلك عدة منح من برنامج مساعدة الصحفيين التابع للجنة حماية الصحفيين. وفي عام 2015، قالت إكنيليغودا إن الدعوى القانونية ظلت تأخذ منها معظم وقتها، وبالتالي كانت تسدد فواتيرها من المال الذي يدره عليها مشروع صغير لتزويد خدمة الطعام يقدم ما دعته هي بعبوات من الأرز في الفعاليات الصغيرة مما سمح لها بمواصلة تخصيص معظم وقتها لأنشطتها.
وقالت إكنيليغودا إنها اصطدمت في طريقها بمنعرجات أخرى غير هذه، ربما كان أقساها ذلك الذي هزها إلى حدٍ جعلها تشك في مدى تفانيها، والذي تسببت به السلطات المحلية التي تجاهلتها وأهملتها بصورة منتظمة حتى وقت قريب مع مواجهة حملتها بمزاعم غير مؤيدة بأدلة. ففي عام 2012، قال النائب العام آنذاك موهان بيري لمسؤولي الأمم المتحدة إن براجيث إكنيليغودا يختبئ في بلد أجنبي وأن الحملة الرامية إلى حل لغز اختفائه ليست سوى خدعة. وبعد مضي ست سنوات، لا يزال الجرح المرتبط بالعزلة المالية والسياسية والاجتماعية غير مندمل بالنسبة لإكنيليغودا.
إن قصة كقصة إكنيليغودا – من التعرض للمهانة على يد السلطات المحلية- ليست قصة من نوع غير مألوف؛ فخلال سنوات عشر من كتابتي لتقارير عن الانتهاكات بحق حرية الصحافة، رويت لي على نحو متكرر حكايات من عدم الاكتراث المماثل بأفراد عائلات، كثير منهم من النساء، كانوا يسعون للحصول على دعم أو معلومات عن أشخاص عزيزين عليهم. ومن بين هؤلاء كانت غونغادزي التي قالت وهي تستعيد ذكريات اليوم الذي أبلغت فيه عن فقدان زوجها إن عناصر الشرطة المحلية “كانوا يضحكون ساخرين مني وطلبوا مني الابتعاد”. وبابتسامة العارف، قالت إن ضباط الشرطة أخبروها أن زوجها ربما كان قد هجرها وذهب إلى امرأة أخرى.
إن قرار ديان وجون فولي بعدم الإعلان عن اختفاء ابنهما حتى يناير/ كانون الثاني 2013 عائد جزئياً، حسب ما قالته فولي مراراً، إلى تشجيع إدارة الرئيس أوباما لهما بالتزام الصمت من أجل حماية ولدها. وقالت “منحت ثقتي لوقت طويل جداً وفشلنا. لقد تم استغفالنا”. وحسب فولي، أخفقت السلطات في إجراء التحقيق الملائم وفي الوقت المناسب حول وضع ابنهما ورفضت التفاوض مع خاطفيه فيما حذروها وزوجها من احتمالية ملاحقتهم قضائياً إن دفعوا أي فدية. وقالت فولي “على الرغم من أني لا ألقي باللائمة على أحد، إلا أننا سمحنا للسياسات بأن تقف حجر عثرة في طريق المساعدة”.
على الرغم من إبرائها لساحة الحكومة، تشعر فولي أن الحكومة خذلت ابنها، وكذلك فعل الإعلام والمنظمات المعنية بحماية الصحفيين، بما في ذلك لجنة حماية الصحفيين. تعتقد فولي أنه على الرغم من التعتيم الإعلامي الذي طُبق في البداية، إلا أنه كان بوسع الأشخاص الناشطين في هذا المجال أن يقدموا دعماً أكثر فعالية لها في مسعاها، وقالت إنه عندما “غاب جيمس عن الأنظار كان كثير من الصحفيين يعرف مناطق الحرب ويعرف سوريا. كان بمقدورهم أن يساعدوا لأنهم كانوا يعرفون أكثر مما تعرف الحكومة، لكنهم لم يتصلوا بنا. لم يتقدموا يوماً بأية معلومات”. بينما كانت فولي توضح محاولاتها بشأن المساءلة، كان واضحاً أنها تحس بشعور عميق بالعزلة التي ضربت جذورها في حملتها – شعور لا يختلف عن الشعور الذي وصفته إكنيليغودا أيضاً.
عدا عن المحن الشخصية التي مرت بها هذه النساء، ثمة عقبات كأداء أخرى وقفت في طريقهن. أبرز ما في ذلك أنهن جميعاً تعرضن للتهديدات المباشرة. فمنذ أن شرعت إكنيليغودا في البحث علناً عن مكان تواجد زوجها، تلقت في العديد من المناسبات تهديدات عبر الهاتف من أشخاص مجهولين اتهموها بأنها خائنة. وقالت فولي إنها تعرضت للمضايقة على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل أشخاص اعتبروا نقدها العلني لحكومة الولايات المتحدة اعتداءً على أسلوب الحياة الأمريكي. وقد اهتزت كلتاهما من تلك التهديدات لكنهما لم تأخذاها على محمل الجد. أما التهديدات التي وجهت لغونغادزي وسوليانا فقد أجبرتهما على الرحيل إلى المنفى.
وقالت غونغادزي “بدأت التهديدات تصلني على الفور”. وفي الأشهر التي تلت مقتل زوجها، باتت غونغادزي مدركة أن هناك من يتتبع كل خطوة تقوم بها، حسبما أخبرتني به، وأضافت أنه هو الآخر كان قد جرى تعقبه.
وأوضحت غونغادزي أن زملاء لها ممن لهم صلات بجهاز الأمن الأوكراني أخبروها أن هاتفها مراقب وحذروها من مناقشة أي شيء مهم على الهاتف. وقالت “وهكذا وعند تلك النقطة أرسلت ابنتيّ لتعيشا مع أهلي. وطلبت من صديق أن يأخذهما [إلى هناك] ولم يعلم أحد بمكانهما. لقد أخذوا زوجي ولم أكن أريد أن أعرض أطفالي للخطر لأني كنت قد قررت التحرك في العلن”.
عندئذٍ، تقول غونغادزي، سلمها سياسي محلي تسجيلاً مزعوماً للرئيس كوتشما يأمر رئيس هيئة أركانه بفعل شيء لإيقافها ورئيس تحرير صحيفة ‘أوكراينسكا برافدا’ التي كان يعمل فيها زوجها. وفي ذلك التسجيل، يحث الرجل الذي يُفهم أنه كوتشما المسؤول الآخر على وقف أنشطة غونغادزي التي باتت تشكل مصدر إزعاج، حسبما ذكرته لي غونغادزي. وعلى الرغم من قول غونغادزي إنها لا تعرف الطريقة التي تم بها تسجيل ذلك الحديث، إلا أنها بدأت تشعر بالخوف على حياتها وحياة طفلتيها. وكان أحد المعارضين قد سرّب في وقت سابق مجموعة أخرى من الأشرطة التي سُجلت بطريقة سرية التي يُسمع فيها صوت كوتشما، رئيس أوكرانيا من 1994 إلى 2005، يناقش مع مسؤولين كبار آخرين، من بينهم رئيس أركان جيشه، طرقاً مختلفة للتخلص من جورجي غونغادزي. وقد وجهت إلى كوتشما عام 2011 اتهامات تتعلق بسوء استغلال المنصب فيما يتعلق بقضية غونغادزي، ومع ذلك فقد رفض الاتهامات التي تقول إن له يداً في مقتل الصحفي. غير أنه لم ينفِ، بحسب تقارير صحفية، أن الصوت في مجموعة الأشرطة الأولى هو صوته رغم زعمه أنه تم التلاعب بالتسجيلات.
وغادرت غونغادزي وابنتاها أوكرانيا متجهتين إلى الولايات المتحدة حيث حصلن على اللجوء السياسي عام 2011.
كذلك سافرت سوليانا إلى الولايات المتحدة مغادرة شرق أفريقيا بعد شهر واحد من اعتقال مدوني المنطقة 9 في أبريل/ نيسان من عام 2014. وكانت قبل ذلك قد أقامت في العاصمة الكينية، نيروبي، حيث يعيش المئات من المنفيين الإثيوبيين الآخرين، بمن فيهم عشرات الصحفيين. وقد قررت سوليانا وجومانيكس، الذي فر ليلة الاعتقالات، مغادرة شرق أفريقيا خشية أن يطالهما الذراع الطويل للحكومة الإثيوبية.
وبُعيد مغادرة سوليانا للمنطقة، تمت مداهمة منزل والدتها في أديس أبابا فيما وصفته سوليانا بأنه جهد عقيم من قبل السلطات الإثيوبية للعثور على دليل مادي يربط مجموعة ‘زون 9’ بالمنظمات الإرهابية. وعلى الرغم من غياب الدليل، وجهت محكمة إثيوبية في يوليو/ تموز 2014 لسوليانا تهمة الإرهاب غيابيا. لكنها بُرأت من هذه التهمة، غيابياً أيضاً، بعد سنة واحدة. وقالت سوليانا إنه “عند تلك النقطة، بات واضحاً أني لن أذهب إلى وطني”.
لقد منح المنفى الذاتي كلاً من غونغادزي وسوليانا الأمن والمجال لمواصلة عملهما على القضية. كما أن مغادرة سريلانكا لفترات قصيرة من الوقت والتحدث على المنابر العامة على المستوى الوطني منح حملة إكنيليغودا ثقلاً، وبطريقة ما منحها الحماية. أصبحت إكنيليغودا الآن شخصية دولية حائزة على جائزة بمقدورها فتح أبواب كان من الممكن إغلاقها بعنف في وجهها قبل ست سنوات.
هذا السعي من أجل العدالة نسج نفسه تماماً حول حياة هؤلاء النساء جميعاً وهوياتهن لدرجة أنه بعد الوصول إلى شكل ما من أشكال الحل، لا زلن يقدمن أنفسهن من خلال مسعاهن هذا. وفي الحالات الأربعة كلها تطور الالتزام الذي بدأ بصفة شخصية ليصبح رسالة تؤدى من أجل العدالة والتغيير العظيم.
وعلى الرغم من التحول الذي طرأ على حملة إكنيليغودا، وعلى الطريقة التي يُنظر إليها بها، ترى إكنيليغودا هدفها ودورها الجديدين على أنهما امتداد للمهمة التي أطلقتها في اليوم الذي لم يعد فيه زوجها إلى البيت. وقالت إكنيليغودا “عندما كنت أكافح بشكل فردي [من أجل براجيث]، كنت في المقام الأول مصممة على عدم السماح باختفاء قضية الاختفاء. والآن أنا أعمل لتمثيل صوت من لا صوت لهم مستخدمة صوتي. هؤلاء هم السبب وراء وقوفي حيث أقف الآن”.
وعندما سُئلت إكنيليغودا عن المصير المحتمل لزوجها، قالت إنها تخشى ألا تتمكن من معرفة الحقيقة، ولكنها تجد العزاء في حقيقة أنها تعرف أن مناصرتها المتواصلة ستبقيه حياً بطريقة ما. “ومهما قالوا ومهما كانت الحقيقة، فهو يظل حياً بالنسبة لي، إنه حي في كفاحي”.
ماريا سالازار-فيرو منسقة برنامج مساعدة الصحفيين في لجنة حماية الصحفيين. وعملت مع اللجنة مدة أربع سنوات في تغطية شؤون منطقة الأمريكيتين وكتبت تقارير عن الصحفيين المنفيين والمفقودين وعن الإفلات من العقاب في جرائم قتل الصحفيين. وقد مثلت لجنة حماية الصحفيين في مهمات حول العالم.