في 8 مارس/ آذار، ألغت هيئة مستشاري الاستئناف في المحكمة الخاصة بلبنان حكم الإدانة الصادر في 18 أغسطس/ آب بحق الصحفية كرمى الخياط، حيث كان الحكم قد نص على تغريمها مبلغ 10,000 يورو (ما يعادل 11,064 دولار أمريكي) بسبب بث قناتها مقابلات مع شهود محميين بصفة السرية.
وفي الوقت الذي جاء فيه هذا الحكم بمثابة النبأ السار للخياط، إلا أنه لا يشكل نصراً صريحاً لحرية الصحافة. والسبب هو أن هيئة مستشاري الاستئناف أضاعت فرصة تاريخية للتداول في قضية مهمة تواجهها منظومة العدالة الدولية، ألا وهي: كيف تُحدث التوازن الصحيح بين الحق في حرية التعبير ومسؤولية المحاكم في حماية المجريات القضائية وإعمال العدالة. وإليكم السبب.
أُنشأت المحكمة الخاصة بلبنان في مايو/ أيار من عام 2007 بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1757 من أجل التحقيق في التفجير الذي وقع عام 2005 وأسفر عن مقتل 22 شخصاً ومن ضمنهم رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. ومنذ إنشاء المحكمة والخلافات تحيط بها من كل جانب. بعض هذه الخلافات يعكس الطبيعة الاستقطابية للمجتمع اللبناني فيما يعكس بعضها الآخر الثغرات التي تعتري المحكمة بحد ذاتها. إن الحكومة السورية وحليفها حزب الله متورطان تماماً في مقتل الحريري فيما تجري محاكمة خمسة مشتبه بهم على صلة بحزب الله غيابياً. وقد جابه مؤيدو الحكومة السورية وحزب الله بالمقاومة الشرسة التحقيق الذي قامت به المحكمة من خلال إلقاء خطابات التهديد وبذل الجهود لتقويض المحكمة عند كل منعطف من منعطفاتها.
كانت حماية هوية الشهود السريين إحدى تلك التحديات التي تواجهها المحكمة لما يشكله ذلك من أهمية حاسمة في نجاح التحقيقات. ففي أغسطس/ آب من عام 2012، بثت قناة الجديد، وهي قناة مستقلة تتخذ من بيروت مقراً لها، سلسلة مؤلفة من خمس حلقات تتطرق فيها لمسألة التسريبات المزعومة عن المحكمة تضمنت عرض مقابلات مع من زُعم أنهم شهود سريون دون إظهار وجوههم حرصاً على عدم كشف هويتهم. خشيت المحكمة من إمكانية أن يؤدي بث هذه الحلقات إلى تقويض ثقة الجمهور في التحقيقات وثني الشهود المستقبليين عن الإدلاء بشهاداتهم أمام المحكمة، فشرعت في إجراء قانوني بحق المحطة التلفزيونية وصحفيتها، كرمى الخياط، لازدرائهما المحكمة موجهة إليهما لائحة اتهام مؤلفة من شقين؛ أولهما كان اعتراض سير العدالة عن سابق معرفة وقصد من خلال بث تقارير حول شهود سريين، وأما الثاني فكان عدم حذف الحلقات عن الموقع الإلكتروني للمحطة وقناة اليوتيوب بعد تبليغ الخياط بذلك عبر البريد الإلكتروني كما ادعت المحكمة. وفي المحكمة، زعمت الخياط التي كانت في إجازة عند إرسال الرسالة أنها لم تستلم تلك الرسالة على الإطلاق.
أسقطت المحكمة التهم الواردة في لائحة الاتهام الأولى، غير أنها أدانت الخياط بالثانية وأمرتها بدفع غرامة قيمته 10,000 يورو. بيد أن هذه الحكم أُلغي في مرحلة الاستئناف بعد أن ارتأت هيئة الاستئناف أن الادعاء لم يُثبت استلام الخياط لأمر المحكمة.
أخفقت المحكمة وهيئة الاستئناف طوال فترة الدعوى في تناول دور الخياط، على نحو ملائم، كونها صحفية أو في تناول الأبعاد المتعلقة بحرية الصحافة في مداولاتها. وفي 9 نوفمبر/ تشرين الثاني، طلبت لجنة حماية الصحفيين إذناً بتقديم مادة مفيدة على هيئة مُصنف صديق للمحكمة كي تستأنس به هيئة الاستئناف في مثل هذه القضايا، غير أن هذا الطلب رُفض.
رغم تمتع المحاكم الدولية -ومنها المحكمة الخاصة بلبنان- بالصلاحيات التي تخولها بحماية سلامة مجرياتها وممارسة سلطتها تلك عن طريق توجيه تهمة ازدراء وعصيان أوامرها، إلا أن التحدي يكمن في التناقض الذي قد يوقعها ذلك فيه مع الإعلام المحمية حقوقه بالقانون الدولي. تكفل المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الحق في “التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين”. ولا يجوز تقييد هذا الحق إلا في ظروف محدودة للغاية، منها على سبيل المثال حماية حقوق الآخرين وسمعتهم، وحماية الأمن القومي أو النظام العام. ويتوجب على أية جهود ترمي إلى إخضاع حرية التعبير للتقييد أن تتوافق مع “مبدأي الضرورة والتناسب الصارمين” ويجب على المحاكم الدولية التي تمنع التعبير أو تعاقب عليه أن تتقيد بهذه المعايير عن طريق إجراء اختبار للتوازن يأخذ في الحسبان حقوق حرية التعبير لكل من يُتهم بازدراء المحكمة.
كيف يمكن تطبيق ذلك بالشكل العملي عندما يتعلق الأمر بالصحفيين؟ والجواب بكل بساطة: بالنظر في القصد. ففي قضية الجديد والخياط، لا مجال للشك في أن التقارير كانت جديرة من الناحية الإخبارية ووثيقة الصلة، كما أنها عبّرت عن جهد لإطلاع المجتمع اللبناني على قضايا تحيط بها مخاوف مشروعة. ومن خلال تغطية وجوه الشهود الذين تمت مقابلتهم، برهنت المحطة على مشيئتها في حماية سلامة مصادرها. بعبارة أخرى، تصرفت المحطة بنية حسنة.
لحماية حقوق حرية التعبير، يجب على المحاكم الدولية أن تأخذ بعين الاعتبار دور الإعلام عندما تقضي في الناس بتهم الازدراء. يجب حماية الصحفيين والمؤسسات الإعلامية التي تتصرف على أساس حسن النوايا وتقوم بدورها في إطلاع الجمهور من المسؤولية القانونية حتى وإن أضرت جهودها بالمحكمة. ويجوز، بالمقابل، وبموجب اختبار التوازن، توجيه تهم الازدراء إلى الصحفيين والمؤسسات الإعلامية التي تضطلع في أعمال متعمدة لتقويض المجريات القضائية أو زعزعة الثقة بها أو تخريبها.
وفي الوقت الذي قد يشكل التوصل إلى قرار من هذا القبيل تحدياً بالنسبة للمحاكم الدولية، إلا أنه تحدٍ يمكن مواجهته بالنظر إلى محتوى التقرير وسياقه وبمعاينة تاريخ المؤسسة الإعلامية وسمعتها. هذه هي أنواع الأحكام التي تصدر في قضايا القذف وتشويه السمعة حيث تنطبق معايير “سوء النية الفعلي”. ففي هذه القضايا، تنظر المحاكم فيما إذا كان الصحفي قد تصرف “بعدم اكتراثٍ مستخفٍّ بالحقيقة” وتتخذ قرارها بشأن ما إذا كان الصحفي “يعلم أو كان ينبغي له أن يعلم” أن ما نشره كان كذباً.
رغم أن الاستئناف قد أفضى إلى إلغاء الحكم الذي يدين الخياط بازدراء المحكمة، إلا أن المحكمة أضاعت فرصة تاريخية لتقديم خارطة طريق تكفل تحقيق العدالة وتضمن حرية التعبير في آن. وفي ظل غياب مثل هذه الخارطة، سوف يبقى الصحفيون في لبنان وغيره غير حصينين، وفي ظل غيابها أيضاً سوف يغامر الجمهور العالمي بضياع معلومات على قدر حاسم من الأهمية بمقدورها أن تساعد في تقييم أداء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ودعم جهودها في محاسبة الجناة المسؤولين عن جريمة نكراء.
جويل سايمون هو المدير التنفيذي للجنة حماية الصحفيين. تتناول كتاباته طيفاً واسعاً من القضايا الإعلامية وتُنشر كتاباته في صحف سليت، وكولومبيا جورنالزم ريفيو، وذا نيويورك ريفيو أوف بوكس، وورلد بولسي جورنال، وأساشي شيمبون، وذي تايمز أوف إنديا. وقد ترأس سايمون العديد من المهمات الدولية الهادفة إلى دفع عجلة حرية الصحافة. نُشر له في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 كتاب بعنوان “The New Censorship: Inside the Global Battle for Media Freedom” (الرقابة الجديدة: من قلب المعركة من أجل حرية الإعلام”. تابعوه على تويتر على @Joelcpj. يمكنكم معرفة مفتاح التشفير العام لسايمون باستخدام بروتوكول الخصوصية “GPG” هنا.