في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني كان أحمد أبو الحمزة، أو “سوفت وير” كما كان معروفاً بين أصدقائه، يقف وراء الكاميرا بينما يظهر أحد المقاتلين وهو يشرح للكاميرا كيف انتزعت قوات الثوار تل سكيك الاستراتيجي الواقع شمال حماة من يد القوات الحكومية. فجأة يلتقط مسجل الصوت في الكاميرا دوي خبطة ناتجة عن إطلاق قذيفة هاون من مسافة. مرت بضع ثوانٍ من الارتباك الذي تحول إلى رعب لدى انفجار القذيفة أمام الكاميرا بالضبط، مما أسفر عن مقتل أبو الحمزة ومقاتل المعارضة وجرح عدة أشخاص آخرين.
عرض أصدقاء أبو الحمزة تسجيلاً للحظات الأخيرة التي التقطتها عدسة الكاميرا في مقطع فظيع نُشر على موقع يوتيوب حقق أكثر من 1.7 مليون مشاهدة. كذلك انتشرت نسخ من هذه التسجيل بسرعة، بعضها عن طريق روايات خلطت بين الأشخاص فقدمت مقاتل المعارضة على أنه أبو الحمزة. وأفاد زملاء أبو الحمزة والوكالة الإخبارية التي عمل لديها أنه كان قد انضم لتوه إلى وكالة ‘سمارت’ الإخبارية المحلية المؤيدة للمعارضة للعمل تحت التجربة وأنه قُتل أثناء قيامه بالتصوير للوكالة. لكن تبين بعد ذلك أن الروايات الأخرى التي خلطت الأدوار لم تكن مخطئة تماماً، حيث ذكر زملاء أحمد أبو الحمزة أيضاً أنه كان عضوا في مركز إعلامي تابع لمؤسسة محلية مرتبطة بتنظيم ‘أحرار الشام’، وهو جماعة معارضة ذات نفوذ ولها صلات بتنظيم القاعدة.
وكان أحمد أبو الحمزة واحداً من 90 حالة درستها لجنة حماية الصحفيين تتعلق بصحفيين أفادت التقارير بأنهم قُتلوا أثناء تغطيتهم لأحداث الصراع الدائر في سوريا خلال هذه السنة. ومن بين الحالات التسعين، تمكنت اللجنة من التثبت من 13 حالة فقط كان مقتل الصحفي فيها نتيجة مباشرة لعمله الصحفي. ومع ذلك فإن هذه النسبة، على صغرها، تجعل سوريا البلد الأكثر دموية في العالم بالنسبة للصحفيين للسنة الرابعة على التوالي. غير أن لجنة حماية الصحفيين لم تتمكن في أكثرية الحالات التي بحثت بشأنها، وكما حدث خلال السنوات السابقة، من العثور على دليل على علاقة مباشرة بين الوفاة والعمل الصحفي، أو تحديد ما إذا كان الصحفي قد توفي بالفعل.
ولكن برزت نزعة محددة في هذا العام: إذ أن نحو ثلث الحالات التي تمت دراستها كانت تتعلق إما بأعضاء في جماعات مسلحة أو أنه تم العثور فيها على صور كثيرة جداً “للصحفيين” وهم يحملون أسلحة بحيث بات متعذراً على لجنة حماية الصحفيين استبعاد احتمالية أنهم كانوا مقاتلين. وتفرض هذه الحقيقة تبعاتٍ مهمة، ليس فقط بالنسبة للأبحاث التي تجريها لجنة حماية الصحفيين، بل أيضاً بالنسبة للصحفيين في سوريا وأماكن أخرى.
كان الصحفيون في عدد من هذه الحالات -كما في حالة أبو الحمزة- يعملون لوكالة إخبارية وجماعة مسلحة في آن واحد، أو أنهم عملوا سابقاً مع جماعات مسلحة. فقد كان صالح ليلى الذي قُتل في تفجير سيارة مفخخة في حلب في أكتوبر/ تشرين الأول، مراسلاً لوكالة أنباء ‘الأناضول’ التابعة للحكومة التركية، وكان أيضاً عضواً مؤسساً لمركز إعلامي تابع لجماعة ‘لواء التوحيد‘ المعارضة، حسب الجهتين. أما ‘وكالة أنباء الأناضول’ فلم ترد على طلب لجنة حماية الصحفيين للتعليق على هذا الأمر.وقُتل ثائر العجلاني بينما كان يعد تقريراً خلال مهمة كلفته بها ‘إذاعة شام إف إم’ من حي جوبر بدمشق، لكن العجلاني كان معروفاً تماماً بالدعاية التي كان يقوم بها أثناء عمله كمسؤول إعلامي لقوات الدفاع الوطني، وهي عبارة عن ميليشيا موالية للحكومة. وقُتل في هذا العام مراسل آخر كان يعمل لوكالة ‘سمارت’، هو عبادة غزال، وكان يعمل قبل ذلك مع جماعة ‘أحرار الشام’.وذكرت وكالة ‘سمارت’ للجنة حماية الصحفيين أنها تطبق قانوناً صارماً يقضي بوجوب أن يكون جميع مراسليها مستقلين عن كافة الفصائل المسلحة كشرط للعمل معها.
وكان أحمد المسالمة، الذي قُتل برصاص مهاجمين مجهولين في هجوم بدرعا في سبتمبر/ أيلول، يعمل مع’مؤسسة النبأ الإعلامية‘ المحلية. وبحسب مدير ‘مؤسسة النبأ’، إبراهيم حمد، كان المسالمة يعمل مسؤولاً إعلاميا ‘لجبهة النصرة’ وهي الفرع الرسمي لتنظيم القاعدة في سوريا، لغاية يوليو/ تموز 2014 قبل انضمامه ‘لمؤسسة النبأ’. وبعد وفاته نشرت قناة الجزيرة على موقعها انه كان يعمل معها كمراسل وأنه مات اثناء تأدية عمله الصحفى، غير أن المتحدث الرسمي باسم ‘الجزيرة’، حسن باتيل، نفى بشدة ان يكون المسالمة قد عمل معهم “بأى شكل رسمي” و قال أن ‘الجزيرة’ تطبق “عملية تدقيق شاملة” على الموظفين الدائمين والمستقلين على حد سواء، وإنها لا توظف أي شخص تعرف انه تربطه علاقة حالية أو سابقة بجماعة مسلحة أو بجماعة معارضة.
هذا المزج بين الصحافة والقتال ليس بالأمر الجديد في سوريا، إذ ينظر المحاربون هناك إلى الإعلام باعتباره ميداناً آخر من ميادين المعركة. ليس كل العاملين في مراكز إعلامية تابعة لجماعات مسلحة يحملون السلاح، لكن كشفت لجنة حماية الصحفيين عن صور وتسجيلات مصورة لصحفيين مزعومين وهم يحملون بنادق وكاميرات في الوقت ذاته. وقد تزايدت خلال هذه السنة نسبة الحالات المماثلة أو حالات الارتباط المباشر بجماعات مسلحة مقارنة بالسنوات السابقة.
تتسم الأسباب التي تقف وراء هذه العسكرة للصحافة بالتعقيد، لكن الرقابة الوحشية التي عرفتها السنوات الخمس الماضية شكلت الدافع المحرك الأساسي لها، بلا ريب. فمنذ عام 2011، قُتل ما لا يقل عن 92 صحفياً أثناء تغطيتهم لأحداث الصراع في سوريا. وهناك نحو 25 صحفياً مفقوداً أو محتجزاً كرهينة، فيما يقبع ما لا يقل عن 7 صحفيين في سجون الحكومة السورية. وفي مواجهة هذه المخاطر الرهيبة، توقف الصحفيون الدوليون إلى حد كبير عن الذهاب إلى سوريا فيما فر عشرات الصحفيين السوريين إلى خارج البلاد. أما الذي تبقوا فقد انضموا بوتيرة آخذة في التزايد إلى الجماعات المسلحة أو دُفعوا نحو الاعتماد تماماً على تلك الجماعات لضمان ولو قدر يسير من سلامتهم.
إن المضامين المتعلقة بعملية جمع الأخبار وقدرتنا على فهم الصراع واضحة، إذ نظل متعطشين للمعلومات من سوريا وغارقين فيها في الوقت ذاته. لقد عملت الجماعات المسلحة من كلا طرفي النزاع بلا كلل على ممارسة الرقابة على الصحافة ومن ثم أصبحت هي نفسها من بين كبار منتجي ومصدري المعلومات. وبالتالي، قلَّ عدد الصحفيين المستقلين الذين يمكن سؤالهم للتثبت من المعلومات من الداخل.
وهذا يجعل الأبحاث التي تقوم بها لجنة حماية الصحفيين أكثر صعوبة. وتمثل حالة أبو الحمزة استثناء نادراً، فتوثيق مقتله بالفيديو على ذلك النحو الواضح للغاية، وشهادات شهود العيان والوكالة الإخبارية التي كان يعمل فيها، أتاحت للجنة حماية الصحفيين أن تتحقق من أن مقتله كان مرتبطاً بالتحديد بدوره في وكالة ‘سمارت’ للأنباء وليس بعمله في تصوير مشاهد المعارك نيابة عن جماعة ‘أحرار الشام’، وليس بوسع لجنة حاية الصحفيين أن تعتبر ذلك الدور بوصفه عملاً صحفياً. ولكن في السواد الأعظم من الحالات التي تبين فيها للجنة حماية الصحفيين وجود صلات وثيقة مع جماعات مسلحة، لم يكن مثل هذا الدليل الواضح متوفراً.
هناك جزء من هذه القضية نابع أيضاً من اللغة. فعبارة ‘إعلامي’ باللغة العربية تعني حرفياً كل من ينخرط في مجال الإعلام والمعلومات، وقد تصف عبارة إعلامي الصحفي لكنها قد تصف أيضاً المتحدث الرسمي في مكتب حكومي أو مسؤول دعاية في جماعة مسلحة. ومن شأن هذا المزج بين الأدوار أن يجعل من العمل في القنوات الإعلامية والجماعات المسلحة بشكل متبادل أمراً يسيراً على ‘الإعلامي’.
وعليه، فإن الكثير من التقارير العربية عن مثل هؤلاء الأشخاص لا يميز بين العملين بالشكل الكافي. وفي الآونة الأخيرة، بدأت رابطة الصحفيين السوريين المؤيدة للمعارضة بحفظ قوائم منفصلة؛ الذين يعملون كصحفيين في قائمة والذين يعملون مع الجماعات المسلحة في قائمة أخرى. أما مركز توثيق الانتهاكات في سوريا فليس لديه قوائم منفصلة لكنه يحدد بوضوح طبيعة جميع الحالات التي يوثقها من حيث كونها لمدنيين أو لمقاتلين.
وفي الوقت الذي شكلت فيه الدعاية دائماً جزءاً من الحرب، إلا أن الدعاية شيء مختلف تماماً عن الصحافة. فأفضل حماية بالنسبة للصحفيين في أي من مناطق النزاع هي وضعيتهم كمدنيين بموجب القانون الدولي. وفي كل مرة يحمل فيها الصحفي سلاحاً، وفي كل مرة نخلط خطئاً بين صحفي وعضو في جماعة مسلحة يتعرض ذلك الدرع الواقي لضربة تشوهه.
لم يتعرض ذلك الدرع للاعتداء في سوريا وحدها، بل وفي مختلف أرجاء الشرق الأوسط. فخلال هذه السنة حققت لجنة حماية الصحفيين في مقتل صحفيين في غزة والعراق واليمن لكنها لم تتمكن من إدراجها ضمن تقاريرها بسبب وجود دليل على أن هؤلاء الأشخاص كانوا يشاركون في العنف. وفي الضفة الغربية، تظاهر رجل فلسطيني بأنه صحفي كي ينفذ هجوماً لطعن جندي إسرائيلي. تغذي كل هذه الحوادث الرواية الخطرة التي ترددها كل من الحكومات المستبدة والأطراف الفاعلة من غير الدول بأن الصحفيين إرهابيون أو جواسيس أو مقاتلون.
هذه الضبابية في الخط الفاصل تهدد حياة الصحفيين الذين لا زالوا يعملون في سوريا من أمثال رامي الجراح من وكالة ‘أنا’. وقال رامي الجراح للجنة حماية الصحفيين، وهو يغطي الأحداث من حلب في الآونة الأخيرة، إنه لا يوجد عذر لمن يمارس العمل الصحفي وهو مسلح أو تابع مباشرة لأحد الفصائل المسلحة. وعلى الرغم من تأكيده بأنه لم يشاهد في الآونة الأخيرة أي صحفيين يحملون بنادق، ولكنه أفاد بأنه تجادل في السابق مع شخص ما حول هذه المسألة لأن هذه الممارسة “خطرة وأنانية وتهدد حياة كل الصحفيين”.
منذ سنوات قليلة فقط حمل نشطاء من مختلف أنحاء سوريا كاميراتهم لينقلوا للعالم ما الذي يحدث لعائلاتهم وأصدقائهم وجيرانهم. بيد أنه جوبهوا بقوة متوحشة على يد الحكومة أولاً ومن ثم على يد الجماعات المسلحة التي انتشرت في كافة أرجاء البلد. لكنهم واصلوا إرسال التقارير في مواجهة الوحشية وفي مواجهة لامبالاة المجتمع الدولي.
حينذاك، كان السؤال الأكثر تردداً الذي اضطر باحثو لجنة حماية الصحفيين لطرحه على أنفسهم بشأن سوريا هو: “كم تسجيلاً مصوراً ينتج الصحفي في يوتيوب؟”. والآن بتنا مجبرين بدرجة أكبر على طرح السؤال التالي: “كم تسجيلاً مصوراً ينتج المقاتل وهو مسلح؟”. قد تشكل عسكرة الصحافة في سوريا تحدياً أمام لجنة حماية الصحفيين في إجراء الأبحاث، إلا أنها تشكل تحدياً أعظم بكثير بالنسبة للصحفيين الذين يعملون هناك وفي أماكن أخرى.
يحدونا الأمل أن تكون تلك النزعة قابلة للتغيير. لقد عمل كثير من العاملين في المجال الإعلامي مع جماعات مسلحة بحكم الضرورة وليس من منطلق حق الاختيار، حسب رامي الجراح الذي قال للجنة حماية الصحفيين “إنني واثق من أن الغالبية العظمى من أولئك الذي يعملون مع الجماعات المسلحة لن يفوتوا فرصة المغادرة إذا توفَّر لهم أي بديل آخر”.
ملاحظة من الكاتب: تبذل لجنة حماية الصحفيين كل جهد للتثبت بشكل مستقل من كل حالة من الحالات التي يُقتل فيها صحفي في سوريا وأي مكان آخر. حصلنا خلال جهودنا على مساعدة من مراسلتنا في بيروت ناديا مسيح ومن المتدربين في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لوري بيتاريان وإيان كاش ونادين منصور.