بقلم: فضل علي رضا
مع اقتراب نهاية شهر أغسطس/ آب من عام 2014، شنت مصر والإمارات العربية المتحدة غارات جوية ضد من وُصفوا بأنهم ميليشيات متحالفة مع الإسلاميين تقاتل على مقربة من طرابلس بليبيا. أو ربما أنهما لم تفعلا. كانت صحيفة ‘نيويورك تايمز’ أول من أورد الخبر في 25 أغسطس/ آب 2014، غير أن مصر نفت ذلك ولم تعلق الإمارات فيما صدر عن المسؤولين الأمريكيين تصريحات متضاربة.
في ليبيا، لا تزال الحقائق مرتهنة سياسياً؛ فالحكومة التي تتخذ من طبرق مقراً لها والقوات المنضوية تحت لواء “عملية الكرامة” المتحالفة مع مصر رددتا النفي المصري، إلا أن الحكومة المنافسة لها في طرابلس والمرتبطة مع الائتلاف العسكري المعروف باسم “عملية فجر ليبيا”، والذي استهدفته الغارات الجوية حسب المزاعم، تمسكت برواية صحيفة ‘نيويورك تايمز’.
تصطبغ المعلومات في ليبيا وعنها -على نحو متزايد- بلون الروايات المتناقضة للأطراف المتصارعة وليست مبنية على حقائق يستقصيها ويؤكدها صحفيون محترفون. ومن الأسباب المباشرة لهذه الظاهرة مقتل الصحفيين ومن نتائجها المباشرة التضليل الذي يصب الزيت على نار العنف. والعنف بدوره يقتل الصحفيين ويعترض سبيلهم ويدفعهم إلى الابتعاد خوفاً، الأمر الذي يضمن استمرارية دورة العنف.
أدركت الصحافة العالمية حجم خطر التغطية الإعلامية من ليبيا أول مرة لدى مقتل اثنين من صحفييها بنيران قذائف الهاون أثناء الثورة عام 2011، وهما: المصوران الصحفيان تيم هيثرنغتون وكريس هوندروس. وكان الصحفي المستقل جيمس فولي -الذي أُعدم في أغسطس/ آب 2014 في سوريا على يد جماعة تسمي نفسها الدولة الإسلامية- قد أسر من قبل قوات موالية للنظام في ليبيا عام 2011 أثناء تغطيته أخبار الحرب هناك، وذلك في حادثة قُتل فيها أحد الزملاء وهو أنتون هامريل.
كذلك قُتل في السنة نفسها الصحفي الليبي محمد النبوس الذي أسس تلفزيون ‘ليبيا الحرة’ في بداية الثورة على النظام. ومنذ ذلك الحين، أضحت الغالبية العظمى من الصحفيين الذي يتعرضون للقتل أو التهديد أو للاختطاف -وبأعداد مفزعة- في ليبيا من الصحفيين المحليين.
قبل الثورة، لم تكن هناك أية صحافة مستقلة فعلياً في ليبيا؛ فقد كانت دولة معمر القذافي الاستبدادية تضطهد بعنف كل من يتمتع بجرأة كافية للمجاهرة برأيه. وقد نتج عن إسقاط النظام فضاء استطاع فيه الصحفيون الشباب والمؤسسات الإعلامية أن يعملوا في جو من الحرية النسبية والبدء بتعلم مهنة التغطية الصحفية، غير أنه نتج عنه أيضاً فضاء استطاعت فيه جماعات مسلحة من العمل بحرية وتعزيز نفوذها عبر العنف. وبحكم النتيجة، أصبح الخطر الأكبر الذي يتهدد الصحفيين يأتي اليوم من مجموعة مختلفة من الجماعات المسلحة التي تعمل خارج نطاق السيطرة المركزية والتي تعاقب الصحفيين الذين ترى أنهم يعملون ضد مصالحها.
ومن الأمثلة المبكرة على ذلك ما حدث في يوليو/ تموز 2012 عندما اختُطف صحفيان من مدينة مصراتة، هما عبد القدير فسوك ويوسف بادي على يد أشخاص موالين للقذافي على مقربة من بلدة بني وليد. وعندما تظاهر المواطنون العاديون من مصراتة في الشوارع في شباط/ فبراير عام 2011 للاحتجاج على نظام القذافي، عاجلهم النظام برد عنيف على الفور. وكان أبناء مصراتة من المواطنين العاديين قد حملوا السلاح وبدأوا بالتجمع لمقاتلة النظام. ونظراً لكونهم يعيشون في مدينة لها ميناء على البحر، نجحوا في كسر حصار النظام عليهم حيث كانوا يتلقون السلاح والمؤن عبر البحر. وفي إطار تدخل حلف الناتو، تحولت المعركة لصالح مصراتة ونجحت هذه الجماعات المسلحة تسليحاً غير محكم في شق طريقها نحو العاصمة طرابلس. وكانوا يشكلون هناك، وفي أواخر شهر أغسطس/ آب 2011، إحدى القوتين الأساسيتين اللتين حررتا العاصمة من قوات القذافي (القوة الثورية الرئيسية الأخرى قدمت من بلدة الزنتان في الجبل الغربي، ولا تزال الخلافات ومعارك الصراع على بسط النفوذ التي نشأت عن ذلك بين الميليشيات الزنتانية والمصراتية تلعب دوراً مهماً اليوم).
بني وليد، بالمقابل، هي بلدة تربطها صلات قوية بنظام القذافي ويزعم كثير من سكانها أن روابط قبلية تربطهم بقبيلة القذافي. ونتيجة لهذا الولاء للقذافي (والدور المتصور لبني وليد في الحصار العسكري على مصراتة)، تابع المصراتيون طريقهم جنوباً نحو بني وليد بعد الاستيلاء على طرابلس. وهناك، ضرب المصراتيون حصاراً حول البلدة حتى التوقف الفعلي لأعمال القتال. غير أن التوترات ظلت قائمة بين المدينتين بعد الحرب.
وفي 10 يوليو/ تموز من عام 2012، أي بعد بضعة أيام من أسر فسوك وبادي، أخبرني بعض أبناء المنطقة أن وجهاء المدينة اجتمعوا لمناقشة أفضل سبل الرد، وكان الجميع يرى أن أسر الصحفييّن مرتبط بالعداء السياسي والعسكري بين مصراتة وبني وليد. وخلال الأيام التي تلت ذلك، تزايدت حدة التوتر فيما ذكرت تقارير للأنباء أن الميليشيات المصراتية طوقت بني وليد وأنها تستعد لفرض حصار عليها. وفي نهاية المطاف تم الإفراج عن فسوك وبادي، ولكن بعد مفاوضات حثيثة بين وجهاء من المدينتين والمجلس الوطني الانتقالي الذي كان يمثل هيئة الحكم المؤقتة.
ومنذ ذلك الحين، يتزايد عدد الحوادث التي يعلق فيها الصحفيون في تبادل النيران بين طرفين متنازعين. لقد تم اختطاف وأسر العشرات من الصحفيين، بل إن بعضهم قد قُتل. وقد أكدت لجنة حماية الصحفيين مقتل صحفييَن اثنين لأسباب تتعلق مباشرة بعملهما، خلال السنتين الماضيتين. فقد قُتل صالح عياد حفيانة، وكان يعمل مصوراً فوتوغرافياً لوكالة ‘فساطو’ للأنباء، أثناء تغطيته لمظاهرة في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 عندما فتحت إحدى الميليشيات النار على المتظاهرين. وفي 26 مايو/ أيار من عام 2014، اغتيل مفتاح بوزيد، رئيس تحرير صحيفة برنيق، على يد مسلحين مجهولين في بنغازي أثناء توزيعه لصحيفته التي كانت تنتقد الميليشيات الإسلامية.
لقد دفعت عمليات الاختطاف والقتل والوفاة غير واضحة الأسباب بالصحفيين إلى توخي الحذر في تغطية العنف. وقال محمد الجارح إن “الخوف على سلامتي الشخصية سيحد دائماً من قدرتي على الذهاب إلى أماكن مثل درنة، على سبيل المثال”. والجارح هو صحفي وزميل غير مقيم في مركز رفيق الحريري التابع للمجلس الأطلنطي، ويقيم في طبرق التي تبعد 170 كيلومتراً فقط عن درنة -وهي مسافة قصيرة نسبياً إذا ما أخذنا الجغرافية الليبية الشاسعة.
في الوقت الذي تحدث فيه الجارح، أي أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، كانت درنة خاضعة لسيطرة إسلاميين عنيفين أعلن بعضهم ولاءه للدولة الإسلامية، المشتهرة تماماً باختطافها للصحفيين وإعدامهم. ونتيجة لذلك، عاشت المدينة في شيء من الفراغ الإعلامي. إن محاولة معرفة أشد الأمور بساطة عما يحدث في مثل هذه الأماكن، بما في ذلك معرفة الجهات التي تسيطرة السلطة وكيف يتناسب ذلك مع الصورة الليبية والصورة الإقليمية الأوسع، مقتصر على حكايات قائمة على معلومات غير مباشرة وتسجيلات مصورة من موقع يوتيوب ومنشورات على موقع فيسبوك من داخل المدينة. وحتى أولئك الذين يضعون تلك المعلومات غير المباشرة يجازفون بحياتهم. ففي 11 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2014، عُثر في درنة على ثلاثة ناشطين شبان -هم سراج غطيش ومحمد بطو ومحمد المسماري- مقطوعي الرؤوس. وكان ثلاثتهم ينقلون خفيةً معلومات عما كان يجري في المدينة، عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي.
وفي غياب التغطية الصحفية الموضوعية والكاملة، يمارس المتطرفون حرية السيطرة على عملية نشر المعلومات. وبالقدر الذي يمكن به لأيٍ كان في العالم أن يعرف عن درنة، هناك أعمال عنف ومتطرفون عنيفون في مواجهة أعمال عنف وأطراف فاعلة عنيفة أخرى بعيداً عن أي سياق اجتماعي أو تاريخي أو سياسي أو اقتصادي. وفي الوقت ذاته، إذا ما وقعت جرائم حرب في درنة أو بين جماعات أخرى، فثمة احتمال كبير ألا يعرف أحد في الخارج عنها. بل إن حتى مجرد الاشتباه في وقوع مثل هذه الجرائم قد يكون كافياً بحد ذاته لإثارة مزيد من الردود العنيفة.
وعلى الرغم من الحالة المتطرفة التي تمثلها درنة، إلا أن العنف والفوضى المستفحلين يحصدان أرواح الناس في باقي أنحاء ليبيا أيضاً. ففي غياب الدولة وفي خضم ما يدعوه كثيرون بالحرب الأهلية، لا توجد قوة شرطية محترفة أو نظام محاكم قادر على التحقيق في الدوافع أو العثور على المشتبه في وقوفهم وراء أعمال القتل هذه. وفي الوقت ذاته، لا تعلن أية جماعة مسؤوليتها عن عمليات القتل، وبقاء اسم الجهة المسؤولة مجهولاً يرسل برسالة مرعبة لكل مَن مِن شأنه أن يجاهر بالرأي.
ومن الجوانب الأخرى للمشكلة: الافتقار للمهنية في العمل الصحفي الأمر الذي يقول البعض إنه نتج عن استهداف المراسلين الذين يعربون عن تحيزهم على نحو واضح. وحسب منظمة مراسلون بلا حدود، كان المرحوم معتصم الورفلي معروفاً بتأييده لأنصار الشريعة الذين تصنفه الولايات المتحدة كجماعة إرهابية. وعلى النقيض من ذلك، نُقل عن كثير من أصدقاء ومؤيدي ناشط السلام ومذيع الراديو بن سعود والناشط سامي الكوافي قولهم إنهم يعتقدون أن أنصار الشريعة هي من قتلتهما في 19 سبتمبر/ أيلول 2014 بسبب مواقفها السياسية. (لا يظهر أي من الضحايا الثلاث في قاعدة بيانات لجنة حماية الصحفيين للصحفيين القتلى لأن اللجنة لم تتمكن من إثبات وجود صلة بين وفاتهم وعملهم).
غير أن المشكلة في طريقة تصرف الصحفيين في ليبيا تتجاوز حدود الافتقار إلى المهنية والموضوعية. لقد دعت بعض المنافذ الإعلامية إلى العنف بلا تحفظ. إن الخط الرئيسي الفاصل سياسياً في ليبيا هو بين من هم في معسكر “الكرامة” ومن هم في معسكر “فجر ليبيا”. يمثل كل معسكر من هذين المعسكرين تحالفاً فضفاضاً من القوى، كما أنه يصعب تحديد الجماعات التي تقع ضمن كل منهما نظراً للتحولات السريعة في التحالفات؛ إذ أن القادة الرسميون لا يسيطرون سيطرة تامة على القوات المسلحة التي يدعون أنهم يقودونها كما أن كل جماعة تضخم من حجم تحالفها في إعلاناتها الرسمية. وفي معرض تقييمها للتحالفات المتصارعة، وصفت صحيفة ‘نيويورك تايمز’ فجر ليبيا بأنه “ميليشيا قوية من مدينة مصراتة التجارية إضافة إلى جماعات إسلامية معتدلة ومتطرفة”. أما ائتلاف الكرامة فيضم -حسب الصحيفة- قسماً من البرلمان المنتخب مؤخراً والذي ينعقد هناك في طبرق ومقاتلين من القبائل الشرقية ومدينة الزنتان غرب البلاد وميليشيات مؤلفة من جنود القذافي السابقين ووحدات عسكرية تحت إمرة الجنرال السابق في نظام القذافي، خليفة حفتر”. يتلقى فجر ليبيا الدعم من تركيا وقطر فيما يتلقى الكرامة الدعم من مصر والإمارات العربية المتحدة.
لقد انحاز الليبيون العاملون في الإعلام إلى أحد هذين التجمعين الرئيسيين. وتدعو إحدى محطات التلفزيون الموالية للكرامة، وتدعى هي نفسها قناة ‘الكرامة’، ومقرها في القاهرة، بانتظام إلى العنف ضد المعارضين.
ويروي صحفي يقيم في ليبيا منذ سنوات، طلب عدم ذكر اسمه في هذا التقرير خشية على سلامته الشخصية، قائلاً “لقد شاهدت مذيع قناة الكرامة يذكر اسم عائلة يُحتمل أنها تؤوي شخصاً من جماعة أنصار الشريعة [التي تصنفها الولايات المتحدة منظمة إرهابية]، ومن ثم شاهدته بعد يومين يصحح كلامه قائلاً ‘كلا لم يكن نفس الشخص ولكن نفس الاسم'”.
وأضاف الصحفي “تفكر بينك وبين نفسك: ماذا لو أن أناساً شاهدوا البث الأول ولم يشاهدوا الثاني؟”، مشيراً إلى أنه لا يوجد من هو في موقع يؤهله لكبح الميليشيات التي قد تتصرف بعنف على أساس معلومات خاطئة.
مثل هذه القنوات الإعلامية الكبيرة ليست وحدها في ميدان التحريض. لقد شاهد الجارح معلومات تضليلية خطيرة وتحريضاً على العنف ينتشر بواسطة الشائعات ومنشورات مريبة على وسائط التواصل الاجتماعي.
وقال الجارح إن “شخصا ما نشر على الفيسبوك من هنا من طبرق أن ‘كذا، كذا’ قُتل وأن ‘كذا وكذا’ هم من قتلوه. لقد ذكر [اسم] العائلة الخطأ على أنها هي من قتلت ذلك الشخص، وبسبب [مسألة] الثأر، سيحمل الناس في الواقع أسلحتهم… لقد كان الناس يعدون أسلحتهم بالفعل تحسباً لقيام أحد بمهاجمتهم بسبب إشاعة الفيسبوك”.
كذلك ساعد ائتلاف فجر ليبيا الذي يسيطر على العاصمة طرابلس في خلق جو إعلامي خطير. فقد اجتمع رئيس مكتب الإعلام الخارجي في طرابلس بمندوبي الوكالات الإعلامية الأجنبية في المدينة يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014. وفي الاجتماع، زُعم أن هذا المسؤول طلب منهم التوقف عن الإشارة إلى الحكومة المنافسة الموجودة في طبرق بصفتها الحكومة المعترف بها دولياً وكذلك التوقف عن الإشارة إلى قوات فجر ليبيا بوصفها ميليشيات. وقد تم تسريب تفاصيل الاجتماع بالإضافة إلى الاعتراضات الشديدة من قبل بعض الصحفيين على محاولة الرقابة، على موقع فيسبوك.
ووصف أحد الصحفيين الذين حضروا الاجتماع بأنه “شكل من أشكال الترهيب” مقارنة بالتكتيك الذي كان يُستخدم في السابق من قبل نظام القذافي لتكميم أفواه الصحفيين، وعبّر عن القلق من أن تفهم الميليشيات -التي تقف وراء سيطرة أية قيادة سياسية مركزية- الاجتماع على أنه رخصة للاعتداء على الصحفيين أو عائلاتهم. وفوق ذلك -والكلام للصحفي- وعلى الرغم من الرواية الرسمية لفجر ليبيا بأنها تعتبر ائتلاف الكرامة المعارض لها مؤلف من قوى سابقة من عهد القذافي، إلا أن ائتلاف فجر ليبيا وظّف في الواقع بعضاً من نفس الأشخاص الذين اعتاد نظام القذافي على توظيفهم لتعقب مراسلي المحطات التلفزيونية الزائرين.
لقد أسهم الاستقطاب الشديد للمشهد الإعلامي إلى جانب الدعوات إلى العنف عبر وسائل الإعلام واستقواء الميليشيات على الصحفيين في إضعاف الثقة في بعض ممن تبقى من الصحفيين الحقيقيين الذين يحاولون نقل الحقائق.
وقال غيث شنيب، وهو صحفي كان يقيم سابقاً في بنغازي ويعمل لوكالات أنباء عالمية إن “الإعلام الآن لا يحظى باحترام الناس العاديين، أو المجتمع المحلي. إن الإعلام يعكس الواقع وإذا كان الواقع جيداً، كما حدث في عام 2011 [الانتفاضة الناجحة على النظام السابق] فإن الناس سيحبون الإعلام والصحفي ويساعدونهما بكل ما يملكون. لكن الواقع الآن سيء للغاية، لذا فإن الإعلام غير مرحب به كثيراً وهم يظنون أن الأمور ساءت إلى هذا الحد بسبب وسائل الإعلام ودعايتها”.
كانت الصحافة الليبية مكبلة في عهد نظام القذافي. والأدهى من ذلك، أنه كان من شبه المستحيل بالنسبة للشباب أن يتخيلوا حتى أنهم سيصبحون صحفيين، نظراً لأن نظام التعليم كان يخلو من الفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية والدراسات الإنسانية. وما أن انهارت القيود التي كانت تفرضها دولة القذافي بفعل الثورة وتدخل حلف الناتو، بدأ المواطن العادي بتبادل المعلومات وخوض النقاشات بحرّية في الفضاء العام، وبشكل أساسي على شبكة الإنترنت من خلال موقع فيسبوك. وقد انتقل الكثير من الشباب الناشط ممن لا يتمتع بالخبرة إلى هذا الفضاء الحر ليتولى القيام بدور التغطية الصحفية المتخصصة. وأشار شنيب إلى أن جُّل المشكلة الحالية في الإعلام نابع من أن الكثير من هؤلاء المراسلين الشبان لم يتعلموا المهنة بالصورة الصحيحة على الإطلاق.
وقال شنيب إن “مستوى الإعلام في ليبيا سيء للغاية حيث لم تصبح سوى قلة قليلة من الصحفيين صحفيين بحق. أما الآخرون فصاروا ناشطين سياسيين أكثر مما هم صحفيون، وذلك من خلال مجاهرتهم برأيهم أو بما يريدونه أن يكون الحقيقة بدلاً من قول الحقائق”.
لقد شجعت التغطية الصحفية غير الموضوعية على العنف وتدمير مصداقية الإعلام، كما أن العنف أحبط برامج التدريب الرامية إلى تطوير مهارات الشباب من أجل بناء أسس سلطة رابعة ناشئة.
وقال طلال بورناز، وهو طالب جامعي ومسؤول المشاريع في منظمة ‘ليبيا واحدة’ وهي منظمة غير حكومية تقوم بتدريب الصحفيين، إن “بعض الصحفيين غادروا البلاد باحثين عن فرصة في الخارج”، وأضاف بأن بعضهم غادر لأنهم تعرضوا للتهديد. ولم يتبقَ سوى قلة فقط لا تزال تعمل وتواجه الوضع السيئ هنا وغالبيتهم يعمل مع الصحافة العالمية”.
بالإضافة إلى الخطر الذي يمثله المناخ الإعلامي الحالي مباشرة على حياة الناس وسمعتهم، فإن الهيمنة المتزايدة لصحفيين متحزبين متطرفين بدلاً من صحفيين محترفين، تترك أثرها على الصورة الكبيرة. فلا أحد يقوم بتقصي القصص الحقيقية، وتخضع التحديات الليبية الجوهرية، كالمصالحة وبناء الدولة والفيدرالية والتنمية الاقتصادية وحقوق الأرض وتوزيع الثروة النفطية -وهي قضايا ظلت تتفاقم في عهد القذافي وأسهمت في قيام الثورة- للروايات المتنافسة والعنف الناجم عنها.
وقال الصحفي الذي كان يقيم في ليبيا لسنوات وطلب عدم ذكر اسمه، إن هناك “الكثير من القصص التي تعتقد أنه من الجيد لو اقتفيت أثرها، لكن… البيروقراطية لا تساعد ومستوى الشفافية الموجودة صفر، ولا يوجد تسلسل إداري، ولا تدري من أين عليك أن تبدأ”، وتابع قائلاً “من المشكلات التي برزت في السنوات الثلاث الماضية هي أننا نعيش على المصادر ونثق في مصادر معينة للحصول على معلومات موثوقة، لكنك تكذب على نفسك كصحفي هنا إذا قلت إن هذا الشخص يمكن الاعتماد عليه 100 بالمائة… لا توجد استقلالية عندما تتحدث إلى الأشخاص، سواء أكانوا محللين أم صحفيين… تلتقي أحياناً بشخصية لا تعرفها ثم في أعماق نفسك تقول: ‘من يعرف هذا؟ وبأية ميليشيا يرتبط؟'”.
لقد باتت تلك مشكلة سقيمة بالنسبة للصحفيين الذين لا يزالون يتمتعون بالشجاعة للعمل في ليبيا.
وأضاف الصحفي “بالنسبة لي، نصف الأشخاص في قائمة الأسماء في هاتفي إما ميتون أو في المنافي”، وأشار إلى أن “الرواية يحركها بالتأكيد أولئك الذين يمسكون بالمسدسات. يشعر بالمرء كما لو أن البلد برمتها تؤخذ رهينة. وليس ذلك فيما يخص المسؤولين المنتخبين فقط -بل كل من يحاول أن يعمل في البلد”.
إن التحديات الهيكلية والسياسية الأساسية في ليبيا يجري تصنيفها برمتها، حسب الترويج الإعلامي للحرب وتغطيته لها، كما ترويها الأطراف المتحاربة نفسها. وفوق ذلك، يشجع ائتلافا فجر ليبيا والكرامة على قراءة الأحداث على الأرض من منظور بسيط هو منظور أسود وأبيض، حيث تتهم جماعات فجر ليبيا الكرامة بأنها تمثل نظام القذافي القديم زاعمين أنه متحالف مع الحكام المستبدين في مصر والإمارات العربية المتحدة. بالمقابل، يرى ائتلاف الكرامة جماعة فجر ليبيا على أنها جزء من خط إسلامي متراص وعنيف معادي للقومية متحالف مع قطر وتركيا. وشأنهما شأن أي خطاب قوي قادر على إلهام الشباب ليخاطروا بأرواحهم في المعركة، تنطوي كلتا القصتين على شيء من الحقيقة.
لكن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك. فلا فجر ليبيا ولا الكرامة يشكل كياناً متآلفاً، كما أن أياً منهما لا يمثل ائتلافاً موحداً تماماً. فهناك الكثير من ميادين الصراع في ليبيا ما بعد الثورة تجري في وقت متزامن وفي ميادين قتال مختلفة تنتشر في أنحاء البلاد. هناك نطاق واسع من الجماعات المسلحة، ابتداءً من الشبكات القبلية إلى ميليشيات الأحياء، وتكتلات ميليشيات المدن-الدول، والميليشيات المجتمعة حول أيديولوجية سياسية، وميليشيات تمثل الجماعات الإثنية. وبما أن أحداً لا يكتب عن الأسباب الجذرية لطبقات الصراع هذه، وبالتالي لا تتم معالجتها، يحاول كل من ائتلافي فجر ليبيا والكرامة الفوز باحتكار ميادين العنف العديدة تلك لنفسه.
ويقول فريدريك ويهري، وهو زميل رفيع المستوى في برنامج الشرق الأوسط التابع لصندوق كارنيغي للسلم الدولي إنه “يجري سحب الليبيين إلى هاتين الزاويتين المتقابلتين. وهم في دواخلهم يعلمون أن الأمر أكثر تعقيداً، لكن عملية رسم خطوط التقسيم جارية”.
وأضاف أن “هذه الخطوط هي خطوط مؤقتة وتعتمد على المصالح الآنية -دعونا نتذكر الصدامات بين الزنتانيين وحفتر عام 2012″، مشيراً إلى جماعات الميليشيا في مدينة-دولة الزنتان والجنرال المسؤول عن عملية الكرامة (وهما جماعتان تصادمتا في الماضي لكنهما متحالفتان ساعة كتابة هذه السطور) “فلا شيء ثابت”.
إن نجاح روايتي الحرب الضيقتين هاتين محتمل، والسبب يعود إلى حد كبير إلى أن ليبيا تفتقر إلى سلطة رابعة قادرة على طرد الأوهام. فقادة الأطراف الرئيسية المتحاربة يروون روايتهم للأحداث ويكسبون المؤيدين دون اكتراث إلى أن الإعلام سيمحص تمحيصاً دقيقاً في حقيقة مزاعمهم أو مصالحهم المالية أو سلوكهم في ميدان القتال أو ارتباطاتهم الخارجية. في اللحظة الراهنة، يبدو أن هذه الروايات للأحداث هي الفائزة وأن الجماعات المتحاربة تعزز مكاسبها. إن هذا الاستقطاب للسياسات في ليبيا لن يترك أية جماعة سليمة من الأذى.
وقال ويهري إن “وجود قنوات جيدة التمويل ومستقطبة تتخذ من القاهرة والخليج مقرات لها وتؤيد هاتين الروايتين المتناقضتين لا يترك كثيراً من الناس في وسط الميدان قادرين على التركيز على القضايا الأساسية واتخاذ مسار براغماتي”.
من المحتمل أن تكون عواقب انعدام التغطية الصحفية الموضوعية أليمة، وهي عواقب قد لا تقتصر على ليبيا وحدها؛ لقد خلق العنف تهديدات ذات شأن على جيران ليبيا من خلال التقلبات الشدية في عمليات إنتاج النفط الليبي، وعن طريق خلق فضاء حر لمتطرفين عنيفين لديهم طموحات للعمل والتدريب على الصعيد الإقليمي، وعن طريق فتح سبل غير منظمة للتهريب.
لا يمكن لأي من جيران ليبيا أن يساعد بالشكل المناسب في الاستجابة لهذه التهديدات دون توفر حقائق وتفاصيل دقيقة تخضع للبحث والاستقصاء على يد صحفيين موضوعيين. وليس بمقدور الليبيين أنفسهم أيضاً وقف العنف عندما لا يكون بين أيديهم حقائق تمكنهم من اتخذا قرارات مستنيرة. إن المواطنين الليبيين العاديين يرغبون بشدة في الحصول على تفسير للعنف وعمليات القتل الثأرية في ليبيا ما بعد الثورة ولانهيار بلدهم. فإذا كانت المعلومات المتاحة لا تكاد تعدو كونها دعاية، فإن من المحتمل أن يتشبثوا بالقصة التي تناسبهم أكثر، ومن ثم يصطفون مع إحدى الروايتين المتناقضتين والملتهبتين اللتين تنطويان على العنف الحتمي، وهو عنف جرى تمكينه بحد ذاته جراء الافتقار إلى قوة شرطية رسمية وجيش ومنظومة قضائية قادرة على القيام بوظائفها- وهكذا تمضي الأمور في أعنتها.
فاضل علي رضا صحفي عمل في ليبيا وتونس وتركيا. يعكف على دراسة الماجستير في سياسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. تابعه على تويتر على @FadilAliriza.