بقلم: محمد المشد
لم يكن هناك أي مجال للشك بشأن من الذي سيتصدر السباق في انتخابات الرئاسة المصرية التي جرت في مايو/ أيار 2014، فقد حرص الإعلام المصري على الإيحاء بقوة أن وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي هو الخيار الأوحد.
تم تحييد جميع المرشحين الآخرين للرئاسة أو إسقاطهم من الاعتبار أو حتى تسفيههم على نحو مستهتر، وبصرف النظر عن مدى أهميتهم؛ فما كان من معظم هؤلاء إلا أن سحب اسمه من السباق.
وبفضل هذا الدعم الإعلامي الذي لا يلين للسيسي، أصبح المشهد جاهزاً للعودة إلى إعلام متجانس مصطف مع الدولة. فكل الوجوه الإعلامية وأصحاب المؤسسات الإعلامية والصحفيين الذين ازدهروا في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وجدوا لهم الآن بطلاً جديداً. واليوم، يجري تطهير الأثير من الكثير من مقدمي البرامج التلفزيونية الذين بروزا بعد ثورة 25 يناير أو بسببها، أو الذين يُعتبر تأييدهم للسيسي دون مستوى المتحمُّس- وذلك عبر إجراءات تنظيمية إعلامية داخلية في الغالب.
وقعت حالات من التدخل الحكومي المباشر أو الرقابة، من قبيل إغلاق القنوات الإسلامية المعارضة، لكن معظم عملية الرقابة تصدر الآن عن مؤسسة إعلامية متحمسة ومتحالفة مع الدولة. والنتيجة هي أن الإعلام في مصر بات يمثل بشكل أساسي صوت الدولة العسكرية.
تجلى هذا الاتجاه بكل وضوح في فترة الاستعداد للانتخابات؛ ففي المقابلات التي أجرتها قنوات تلفزيونية كبيرة خاصة مع السيسي وحمدين صباحي (الوحيد الذي صمد كمرشح معارضة)، كان الفرق في المعاملة واضحاً تماماً. فقد قدم السيسي مقابلات مسجلة عُقدت في مواقع خاصة ظهر فيها وهو يجلس مع محاوريه الذين أبدوا له التبجيل حول طاولة مستديرة كما لو كان يلقي الحِكَم على مسامع مساعدين حريصين على تدبرها. فيما أجرى صباحي، الذي يرى نفسه حاملاً لمشعل الناصرية، مقابلاته في استوديوهات على الهواء مباشرة مع محاورين من الطراز الاستقصائي المقاتل المعتاد، حيث عنفوه بشأن برنامجه الرئاسي وتصريحات كان قد أدلى بها مؤخراً. لقد عومل صباحي على أنه مرشح المعارضة فيما عومل السيسي كرئيس.
عندما كان السيسي وزيراً للدفاع، كان من بين الأوامر الأولى التي أصدرها بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في 3 يوليو/ تموز 2013، إغلاق صحيفتين وتسع محطات تلفزيونية خاصة مؤيدة لمرسي تبث من خارج مصر. ومن ثم زُّج بكثير من موظفي ومالكي القنوات في السجن.
وكان من الواضح أن العلاقة بين النظام والإعلام تتخذ طابعاً عصيباً خلال الأيام الأولى للسيسي في السلطة. ففي إحدى نقاشات المائدة المستديرة المسجلة (هذه المرة في مقر إقامته) في 3 مايو/ أيار من عام 2014، التقى السيسي بالوجوه البارزة في الإعلام المصري وحاضر فيهم حول أهمية الإعلام في “توحيد الشعب”. وفي غضون أربعة أشهر من انتخابه، عقد السيسي ثلاثة اجتماعات أخرى مماثلة مع ممثلين عن الإعلام والمؤسسات الصحفية. ولم يعترض على السيسي أي منهم رغم أن البعض اقترح خطوات تدريجية يمكن اتخاذها من أجل حرية الإعلام.
لقد أدى الانشغال الواضح للدولة بدور الإعلام إلى النتائج المنشودة، فقد حول الإعلام الشعبي تغطيته نحو دعم الحكومة، وقد أفضى ذلك حتماً إلى تغطية منحازة ورقابة داخلية. وعلى الرغم من أن الكثير من الصحفيين يواجهون خطراً حقيقياً من جراء تغطية احتجاجات الإخوان المسلمين أو أنشطة ذات صلة بهم، غير أن قدرتهم على القيام حتى بواجبات روتينية أضحت مقيدة بالهرمية الإعلامية التي تأخذ إشارة التحرك من النظام.
وقد عبّر محمد حلمي، مدير وحدة التقارير في تلفزيون ‘سي بي سي إكسترا’ بالقاهرة، بقوله إنه “من الواضح أن الإعلام اتفق مع الرئيس على أن ‘هناك حرباً على الإرهاب وأنه يتعين على الإعلام أن يقوم بدوره’. لكن، هذه عبارات فضفاضة للغاية، وللأسف يترجمها كثير من المؤسسات الإعلامية بحيث يصبح معناها أن كل من لديه رأي مخالف لرأي الدولة يجب منعه [من الظهور أو النشر]”. وقد تحدثتُ مع محمد حلمي عندما كان في إجازة لمدة شهرين في ألمانيا.
في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، دخل رئيس مجلس إدارة محطة ‘النهار’ إلى غرفة تبديل الملابس الخاصة بمقدم البرامج الحوارية المصري البارز محمود سعد قبل لحظات من موعد بث برنامجه التلفزيوني الليلي ليبلغه بأنه لن يقدم برنامجه تلك الليلة. انصاع سعد، وهو شخصية إعلامية ودودة ومتوازنة نسبياً وغادر المحطة وأخذ معه فريق الإنتاج الخاص به، حسب ما أفاد به بعض صحفيي البرنامج الذين طلبوا عدم ذكر أسمائهم في هذا التقرير. وكان سعد قد استضاف في الليلة التي سبقت ذلك ضيفة قدمت تحليلاً سيكولوجياً ناقداً للسيسي وتحدثت -من بين عدة أشياء- عن التأثيرات السيكولوجية للدعم الشعبي للجيش. واستذكرت الضيفة، وهي منال عمر، أيضاً الهزيمة العسكرية التي مُني بها الجيش المصري على يد إسرائيل عام 1967 وأدت إلى احتلال سيناء مدة سبع سنوات. وفي اليوم الذي تم بث البرنامج فيه، تعرضت وحدات من الجيش المصري للهجوم في سيناء.
لم تكشف محطة ‘النهار’، وهي محطة خاصة، أبداً عن سبب حجب سعد عن الهواء، إلا أن إدارتها أصدرت بياناً رسمياً قالت فيه إنها ستجري “تعديلات جوهرية” على برامجها السياسية، وأشار البيان إن “القناة ستمنع ظهور عدد من الضيوف الذين يروجون لأفكار تضعف من معنويات الجيش المصري”.
بعد ذلك بعدة أيام، نشرت ‘النهار’ بياناً آخر قالت فيه إن سعد سيعود إلى موقعه وإنه متفق مع القناة من حيث أنه يتوجب عليهما العمل معاً على “توحيد الصفوف” والعمل على “إعطاء الأولوية… للمصلحة الوطنية”. وفي 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، تولى زمام البرنامج من جديد من بديلة المؤقت، خالد صلاح، الصوت المؤيد المجلجل للنظام الحالي ورئيس تحرير صحيفة لها نفس الميول. أما التعليق الوحيد الذي صدر عن سعد بشأن فترة توقفه فهو قوله “أنا بصدق لا أعلم سبب عدم ظهوري على الهواء خلال هذه الأيام القليلة الماضية”.
لم تشكل حادثة ‘النهار’ خبراً مهماً خارج مصر، لكنها تُنبي بالحالة الراهنة للإعلام في البلاد. ورغم أن الصحفيين يجدون أنفسهم في أغلب الأحيان معرضين لخطر مادي في الميدان أو واقعين في ورطة قانونية لها صلة بحالة عدم الاستقرار السياسي، تعكف هيئات التحرير العامة والخاصة على تطهير، أو على الأقل إسكات، الشخصيات المؤثرة التي تتضارب رؤاها مع رواية النظام، التي تتطلب وطنية مفرطة وصوت سياسي موحد من أجل محاربة الإرهاب في الظاهر.
حتى مقدمي البرامج الحوارية الذين أيدوا السيسي اسمياً لكن كانت لديهم نزعة للنقد على نحو صادق فقدوا مواقعهم على الشاشة أو في الصحف على الرغم من الشهرة التي يتمتعون بها والجمهور العريض الذين يشاهدهم.
وقال محمد ناصر، وهو مخرج منفذ ومحرر في محطات تلفزيونية خاصة كبيرة من قبيل ‘النهار’ و ‘المدن’، إنه “بعد 30 يونيو/ حزيران، أصبح الاتجاه والجو العام في الإعلام المصري هو التأييد واسع النطاق للنظام بموازاة الكراهية للإخوان المسلمين”.
تم استبعاد مذيعي أخبار ومقدمي برامج حوارية عن محطات التلفزيون الخاصة، مثل يسري فودة (أون تي في) ودينا عبد الرحمن (سي بي سي) اللذين هيمنا على الشاشة في أوقات الذروة الليلية والنهارية، على الترتيب. في حالة فودة، قالت عدة مصادر مطلعة رفيعة المستوى من قناة ‘أون تي في’ طلبت عدم ذكر أسمها في هذه التقرير بسبب احتمالية التعرض للتوبيخ، إن فودة أُبلغ قبل سنة من انتهاء عقدة أنه لن يقدم برنامجه كل ليلة، ولكن يمكنه البقاء لتقديم برنامج أسبوعي -وهو عرض من المؤكد أن يلاقي من فودة الرفض في ضوء شعبيته والرواج الذي يحققه البرنامج.
أما دينا عبد الرحمن، التي كانت تقدم برنامجاً حوارياً كل ليلة تلقي فيه الضوء على قضايا اجتماعية، فقد أُعفيت من العمل في مارس/ آذار 2014، على ما يبدو بسبب ما وصفه رب عملها بأنه “هبوط أسهمها في الإعلام”، بحسب تصريح نقلته صحيفة ‘اليوم السابع أونلاين’ الإخبارية.
وكانت محطة ‘سي بي سي’ هي المحطة ذاتها التي أوقفت عرض باسم يوسف (المعروف بجون ستيورات مصر) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 في الوقت الذي كان برنامجه التهكمي المعارض للسلطة يبلغ قمماً تجارية شاهقة كأكثر البرامج مشاهدة في العالم العربي. وجاء إلغاء البرنامج تزامناً مع توجيهه انتقادات تهكمية لاذعة للرئيس المستقبلي، حيث خصص جزءاً منه للسخرية من الطريقة التي كانت بها قنوات الإعلام المصري تسقط الإشارات غير المهذبة فيما يتعلق بمؤهلات السيسي للرئاسة. وكانت دينا عبد الرحمن قد خصصت وقتاً من برنامجها لتنتقد معاملة صاحب مؤسستها ليوسف، وهو جراح القلب الذي تحول إلى ساخر سياسي.
وهناك آخرون، مثل مقدميّ البرامج الحوارية ريم ماجد وعلاء الأسواني، قرروا الانسحاب من الميدان بعد تقديم أسباب والإعلان عنها. فقد كتبت ريم ماجد رسالة إلى صاحب عملها (قناة أون-تي- في أيضاً) وكشف عنها للعلن قالت فيها إنها تستحضر “شرط الالتزام بما يمليه الضمير” وتتنحى عن برنامجها الليلي لأن مبادئها في ما يتعلق بعملها “لا تتوافق مع مبادئ صاحب العمل”.
العامل المشترك بين جميع الشخصيات الإعلامية التي غادرت الساحة أنها كانت من الأصوات الإعلامية المتفوقة لثورة 25 يناير التي جعلت منها أسماء معروفة. وكانوا جميعاً ليبراليين عارضوا مرسي الذي كان مؤيده قد أُزيحوا أصلاً عن شاشات البث. ولم يكونوا ضد استضافة شخصيات أو موضوعات أنتجتها مظاهرات 30 يونيو/ حزيران ويمكن أن يُنظر إليها على أنها تسير في غير ركب النظام.
كذلك وجد كتّاب مثل بلال فضل وسيف عبد الفتاح وغيرهما ممن احتُفي بهم ككتاب أعمدة صحفية يتابعهم جمهور عريض وثابت من القراء، أنفسهم محجوبين عن الكتابة في المطبوعات التي كانوا يكتبون لها بكثافة. وأوقف العمل الدرامي الأخير لفضل “أهل إسكندرية” عن العرض في كافة المحطات المحلية الخاصة والعامة. وبحسب تقرير عام 2014 للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان بعنوان “حرية التعبير بعد 100 يوم من حكم السيسي”، كان من الأسباب التي أشار إليها مدراء المحطات لوقف عرض مسلسل فاضل هو “أنه من غير اللائق بث دراما تلفزيونية تنتقد أداء الشرطة” قبل ثورة 26 يناير.
وذكر مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان جمال عيد أن “هناك عودة إلى عهد مبارك من إدراجٍ غير رسمي على القائمة السوداء لشخصيات عامة تُعتبر شخصيات غير مرغوب فيها على محطات التلفزيون”. وبحسب عيد، قرر الإعلام الخاص الموالي للنظام من تلقاء نفسه منع ضيوف معينين من الظهور كناقدين للأوضاع.
وفي أبريل/ نيسان 2014، أعلن رئيس الوزراء إبراهيم محلب أنه لن تكون هناك رقابة حكومية وأنه “لن يتم فصل أي قلم حر”. بيد أن الحقيقة هي أن الحكومة تدخلت في مناسبات عديدة وأوضحت بجلاء ما هي عاقبة معارضة الإعلام للأهداف التي تحددها الدولة. وقال أحمد رجب، وهو المخرج المنفذ لبرنامج يسري فودة “آخر كلام” والمدير الإداري لأكبر صحيفة مصرية مستقلة، هي’المصري اليوم’، إن هناك “فصل للأقلام وحجب لكتاب الأعمدة، كما أنه يجري بكل تأكيد إسكات الإعلام”.
غير أن رجب يعتقد أن جزءاً كبيراً من الرقابة هو من نتاج الجو العام ذلك أنه لا توجد رقابة ممنهجة أو انحياز رسمي بمباركة الحكومة. ويؤكد رجب أن غياب الإعلام الموضوعي نابع من التقاء هستيريا اجتماعية بخصوص الإرهاب وخطر عدم الاستقرار السياسي والمصالح التجارية التي تدفع القنوات الإعلامية للتقيد حرفياً بتعليمات الحكومة. وقال رجب إن “سوق البرامج الإخبارية المحايدة والمتوازنة -كبرنامج فودة- يشهد هبوطاً فيما تصعد أسهم سوق برامج تأجيج الحس الوطني”.
وقال خالد البلشي “بعد ثورة 25 يناير مباشرة كانت السلطة في الشوارع، لذا كان على الإعلام أن يسير في ركابها. والآن عاد رجال العمال الذين يسيّرون الإعلام إلى الدولة وهم يقومون بالعمل نيابة عنها”. وذكر البلشي، الذي يرأس تحرير صحيفة ‘البديل’ المستقلة منذ عام 2008، أنه يعتقد أن الدولة “أساءت” للصحافة عن الطريق التعامل بقسوة مع المراسلين الذين أغضبوها من خلال القيود على إمكانية الحصول على المعلومات وإجراءات قانونية مختلفة.
وقال مذيع أخبار يعمل في شبكة خاصة، اشترط عدم ذكر اسمه، إنه تلقى منذ فترة التحضير لمظاهرات 30 يونيو/ حزيران أوامر من رؤسائه بعدم السماح بظهور أي من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في أي من برامج الشبكة. وزعم المذيع أنه قيل له إن هذا واجب وطني، وذلك على الرغم من أن الإخوان المسلمين كانوا لا زالوا في السلطة ولم يتم بعد اعتبارهم منظمة إرهابية كما هي الحال الآن.
يؤيد كثير من المطلعين في مجال الإعلام الرأي الذي عبر عنه أحمد رجب بأن التغطية الإخبارية للمحطات الخاصة لا تُملى من قبل النظام -ليس رسمياً، على الأقل. وقال محمد ناصر الذي يعمل أيضاً مديراً لمكتب القاهرة بقناة ‘الميادين’ اللبنانية، إن “معظم الإداريين في الإعلام متفقون على أن الحكومة لم تصدر أوامر مقيدة لحرية الرأي ضد أي من هذه الشخصيات”.
إلا أن ثمة حادثة واحدة تتناقض على ما يبدو مع وجهة النظر تلك، حصلت مع عايدة سعودي التي تقدم برنامج منوعات على ‘راديو هيتس’ وهي محطة إذاعة مملوكة للقطاع العام. وقد خرجت عايدة السعودي في برنامجها يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 لتعبر عن خيبة أملها لأن الدعوى القانونية المقامة على الرئيس السابق حسني مبارك رُفضت استناداً إلى أسس إجرائية، مما أدى إلى تبرئته. ولم تنتقد المذيعة قرار المحكمة بحد ذاته -الأمر الذي يعد غير قانوني ويُعاقب علية بالسجن وبالتالي يُستخدم كمسبب لإيقافها عن العمل. وكان موعد انتهاء عقدها -الذي كانت تجدده بانتظام لأكثر من خمس سنوات- يوم 1 ديسمبر/ كانون الأول 2014، لكن في اليوم الذي تلا تعبيرها عن غضبها، والكلام للسعودي، قيل لها إن عقدها لن يتم تجديده.
وبعد أن تصدرت أخبارها العناوين، قالت السعودي إنها تلقت في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول مكالمة هاتفية من شرطي يعمل في مكتب السيسي أبلغها فيها بأن “الرئيس أمر بتجديد [عقدك]… ويبعث بتحياته”. وذكر يوسف الحسيني في تعليقات له على الهواء أن ممثلاً عن مكتب الرئيس اتصل ببرنامج حواري يقدمه الحسيني ليؤكد أن الرئيس أمر بعودة السعودي إلى العمل. وروت عايدة السعودي أيضاً قصة تلك المحادثة أيضاً في مقابلة تلفزيونية مع محمود سعد في اليوم التالي.
دفع ذلك المراقبين إلى التساؤل مما إذا كانت الإجراءات المتناقضة بخصوص عقد السعودي تدل على انقطاع الاتصال بين صناع القرار في الإعلام والرئاسة أو السلطات التنفيذية الأخرى. وقد أثارت السعودي -التي عادت إلى تقديم برنامجها- هذا الموضوع أيضاً.
يؤكد إداريون في التحرير على أن العلاقة التي تربط الصحف ومحطات التلفزيون الكبرى مع مختلف أجهزة الدولة تعني أن تدخل الدولة في تغطية الأخبار المحلية يأتي أحياناً عبر مكالمات هاتفية غير رسمية. ويؤيد أحمد رجب هذه النظرية أيضاً ويقول إن “أكثرية مالكي وسائل الإعلام يجدون أن مصلحتهم أن يسترضوا الدولة بحيث أنهم لا يرفضون طلبات مباشرة مثل تجنب موضوعات أو شخصيات معينة. إني أشعر أنهم -على العكس من ذلك- يبالغون في محاولة إثبات ولائهم”.
بعد يوم واحد من حادثة محمود سعد، وبينما كانت البلاد منشغلة تماماً بأنباء الهجمات الإرهابية في سيناء، اجتمع رؤساء تحرير الصحف الكبرى وأصدروا بياناً أعلنوا فيه أنهم سوف “يدعمون كافة الإجراءات التي تتخذها الحكومة في محاربة الإرهاب وحماية الأمن القومي للبلاد”. وجاء الاجتماع بعد حادثة أخرى في تلفزيون ‘دريم’، حيث قُطع بث برنامج المذيع وائل الإبراشي قبل انتهائه أثناء توجهيه النقد لوزارة التعليم. إن معظم محرري الصحف البارزة في مصر يديرون أيضاً برامج حوارية تلفزيونية، كما أن الكثير من الصحفيين والمخرجين في التلفزيون يعملون في الصحافة المطبوعة.
من الواضح أن عبارة إعطاء “الأولوية للمصلحة الوطنية”، وهو موضوع متكرر لدى المسؤولين الحكوميين والإعلاميين، هي عبارة مفتوحة على التفسيرات والتي تكون ضمن نطاق فهم الحكومة إلى حد بعيد. وقال مخرج آخر لبرنامج تلفزيوني في محطة خاصة، طلب عدم ذكر اسمه لنفس الأسباب التي أوردها الآخرون -خشية التعرض للعقوبة- إنه تلقى أوامر مباشرة من رؤسائه بالامتناع عن تغطية أخبار احتجاجات الإخوان المسلمين أو تجمعاتهم. وقال المخرج أيضاً “أشاهد التلفزيون معظم أيام الجمعة -لن تشاهد أية تغطية للمظاهرات على التلفزيون، ولكن الفيسبوك سيمتلئ بصورها”.
وقال جمال عيد إنه سمع تقارير مماثلة من مصادر أخرى مفادها أن محطاتهم طلبت منهم تحاشي تغطية أخبار الإخوان المسلمين.
أما الذين يغطون أخبار احتجاجات الإخوان المسلمين فإنهم يواجهون مخاطر واضحة؛ فقد قُتل بعضهم وجرحوا أثناء المواجهات العنيفة، وفي أفضل الأحوال لم تحظَ تقاريرهم بالدعم. وقال محمد حلمي، من محطة ‘سي بي سي إكسترا’، “لدي مراسلون تلقوا الصفعات من الشرطة بسبب تغطيتهم تظاهرة للإخوان المسلمين، وهوجم آخرون من قبل مؤيدي الإخوان اعتقاداً منهم أن المراسلين سيظهرونهم بصورة سيئة”.
بالنسبة لكثير من الصحفيين المصريين فإن دعم مواقف الحكومة واجب، بل إنه لا يُنظر إليه على أنه تحيز. وتستذكر الصحفية البريطانية إيموجين لامبرت مقابلة عمل مع بوابة إلكترونية تابعة لشبكة إخبارية قيل لها فيها دون أي تردد إن الشبكة تؤيد الحكومة. وقالت لامبرت إن “المحرر الذي قابلني لم يجد غضاضة في القول: ‘نحن هنا مؤيدون للحكومة، نحن نؤيد الرئيس، ونحن نؤيد الجيش، كما أننا لا نحب الإخوان المسلمين'”.
وتتابع لامبرت حديثها بأن المحرر قال لها أيضاً إنه إذا كان عليها أن تغطي قصة خارجية فينبغي أن تتذكر أن الشبكة تبغض تركيا وقطر وإيران. غير أنه يمكن لها أن تغطي أنباء الاستفتاء في اسكتلندا بكل حرية. وأضاف المحرر “أترين، هذا شيء حتى البي بي سي خاصتكم لا تسمح لك بتغطيته بحرية. وهكذا نحن بالنسبة للإخوان المسلمين”، حسب لامبرت التي تركت العمل بعد أسبوعين.
يرى البعض في هذه المواقف تمثل عودةً إلى العمل في ظل القيود ذاتها التي كانت سائدة في عهد مبارك. غير أن آخرين، ومنهم أحمد رجب، متشائمون بدرجة أكبر. يقول رجب إنه “بالنسبة للصحافة، هذه الأيام هي من أسوأ ما شهدنا في الآونة الأخيرة. فخلال عهد مبارك كانت هناك حدود، لكننا كنا نغطي مواضيع أكثر بكثير علانية. هذه الأيام لا أسمع كلاماً كثيراً عن النزاهة الصحفية بقدر ما أسمع عن الهستيريا المتعلقة بمفهوم الأولويات الوطنية هذا”.
منذ الأيام الأولى للجمهورية المصرية الجديدة، كان كل رئيس يعين وزيراً للإعلام يقوم بتنظيم وإدارة المؤسسة الإعلامية برمتها في مصر، وذلك من خلال التنسيق المباشر مع النظام الممسك بزمام السلطة. والآن تم إلغاء هذا المنصب فيما يجري إنشاء المجلس الوطني للإعلام كبديل عنه بموجب التوجيهات التي وردت في المادة 211 من الدستور المصري لعام 2014. ومما تنص عليه المادة -إضافة إلى أشياء أخرى- أن المجلس مسؤول عن ضمان وحماية حرية الصحافة والإعلام وصون استقلاليتها وحيدتها وتعدديتها وتنوعها، ومنع الممارسات الاحتكارية.
يبدو المجلس، ظاهرياً، كنسخة مصرية عن هيئة الاتصالات الفدرالية في الولايات المتحدة ولكن بصلاحيات أوسع. إن مبعث القلق -والكلام لمحمد حلمي من محطة ‘سي بي سي إكسترا’- متعلق هنا بالمدى الذي سيتسع فيه نطاق صلاحيات المجلس لضمان التقيد “بالأهداف الوطنية”. وقد خُول اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري، وهو هيئة حكومية، بوضع قائمة من 50 شخصيةً ليتم اختيار أعضاء المجلس الخمسة والعشرين من بينها، باستثناء العضوين اللذين يختارهما الرئيس. كذلك يمتلك الرئيس صلاحية اختيار رئيس المجلس.
في ضوء التحالف الوثيق القائم في الوقت الراهن بين الإعلام والدولة، يتخذ كثير من المراقبين جانب الحذر بخصوص احتمالات أن يكون المجلس قادراً على إحداث تغيير ذي شأن. إلا أن خالد البلشي، وهو أيضاً عضو في مجلس نقابة الصحفيين، قال إن تحديد التنظيم المباشر من الدولة للإعلام وتحديد احتكارات الإعلام قد يساعد في التقليل من سيطرة الدولة.
وقال البلشي “نحن إما أننا ننتظر نظاماً قمعياً في مصر بين الشركات الخاصة والدولة التي ليس أمامها إلا أن تصبح أكثر قمعية في المستقبل، أو أن لدينا بصيص أمل في قانون تقدمي جديد من شأنه -إذا ما طُّبق- أن يفضي إلى صحافة حرة بحق”.
تبقى عبارة البلشي الاستدراكية، “إذا ما طُّبق”، سؤالاً حاسماً مطروحاً بخصوص مستقبل الإعلام في مصر.
محمد المشد صحفي مستقل عمل لصحيفة إيجبت إندبندنت المصرية، حيث كان يغطي أخبار القضايا الاجتماعية والاقتصاد والثورة المصرية (2011). وهو يعكف حالياً على دراسة الدكتوراه في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بلندن.