بقلم: إيرين بانكو
الغرفة الصغيرة في الجزء الخلفي من بيت جهاد منصور كانت معدّة لشخصين، ففيها طاولتا مكتب وسريران ومنضدة بجانب كل سرير، كما أن أغطية الفراش متشابهة وأغطية الوسائد مزينة بصور سوبرمان.
كان جهاد منصور الذي يبلغ من العمر 13 عاماً متمدداً على أحد السريرين، وكان يشترك في هذه الغرفة فيما مضى مع شقيقه الأكبر، علي، الذي قُتل في بلدتهم، الباب، في سوريا.
وقال لي جهاد في مقابلة أجريتها معه في الباب في أغسطس/آب 2012، “كل شيء يذكرني به”. وكان جهاد يرتدي قميصاً أصفراً ذا قبّة، ويظهر شقيقه في صورة موضوعة على الطاولة خلفه وكان يرتدي القميص نفسه.
أخبرني أن علي كان متوجهاً إلى المدرسة بصحبة زميله عندما أصيب برصاصتين أودتا بحياته، واحدة في ذراعه وواحدة في بطنه. ثم حمله صديقه على دراجة هوائية ونقله إلى المستشفى المحلي لتلقي العلاج. ولكن جراح علي كانت بليغة مما اضطر المستشفى إلى نقله إلى مستشفى في كيليس في تركيا، ولكنه توفي في 19 يوليو/تموز 2012.
أجريت مقابلة مع جهاد في الوقت الذي كانت فيه الحرب الأهلية في سوريا تغير مسارها. فكانت قوات الرئيس بشار الأسد قد شرعت باستهداف معقل المعارضة في حلب. وحينها كانت المعارضة ما زالت تشكل نفسها. وكانت الجماعة الوحيدة المعروفة هي الجيش السوري الحر، ولكنها لم تكن منظمة بالقدر الذي أصبحت عليه الآن. وكان الجيش السوري الحر في شمال البلد يتألف بصفة أساسية من جماعات من الرجال ممن يعيشون في الأحياء نفسها وشكلوا كتائب خاصة بهم، وحصلوا على أسلحة بأنفسهم، وألقوا بأنفسهم في القتال دون أي تنسيق.
كانت تجري تغييرات مستمرة في ساحة المعركة، كما كانت تتغير البيئة التي يعمل ضمنها الصحفيون. وفي صيف عام 2012، بدأ العديد من الصحفيين العاملين في مؤسسات إعلامية بمغادرة سوريا. وبات القتال يشهد تغييرات مستمرة ومطردة. وتعرض عدة صحفيين للاختطاف على يد جماعات غير محددة من الرجال تبين لاحقاً أنها مرتبطة بجبهة النصرة (وهي امتداد لتنظيم القاعدة في سوريا)، كما قُتل صحفيون معروفون أثناء قيامهم بعملهم، مثل ماري كولفين وأنتوني شديد. وأخذ عدد أكبر من المؤسسات الإعلامية بسحب الموظفين العاملين لديها من سوريا، ولكنها كانت متعطشة للحصول على مواد إعلامية من هذه الحرب التي أصبحت أحد أشد الحروب فتكاً وأكثرها أهمية من الناحية الجيو-سياسية في التاريخ. وحاولت بعض المؤسسات الإعلامية توظيف مراسلين محليين كي يرسلوا إليها صوراً ومقاطع فيديو، في حين اختارت مؤسسات أخرى بديلاً مختلفا: وهم الصحفيون المستقلون. وأنا كنت واحدة من هؤلاء.
وفي تلك الفترة، لم تتوفر لوسائل الإعلام الدولية مقابلات مع مواطنين سوريين عاديين، ممن كان العديد منهم يحاولون تجنب القصف الجوي والبقاء على قيد الحياة. لهذا كان هدفي من التغطية الصحفية في سورية أن أنقل قصص عن مواطنين سوريين بحيث يتفاعل معها سائر الناس في العالم. أردتُ أن أنشر تغطية صحفية عن الحرب دون التركيز على تحديد الطرف الذي يحقق الانتصارات أو الطرف الذي حصل على أسلحة أكثر.
ولكنني لم أكن قد عملت على تغطية حروب في السابق، وأمضيت عدة أشهر أعمل في تغطية الأزمة السورية من المناطق الحدودية، وأرسلت عشرات المواد الإخبارية كصحفية مستقلة، ولكن لم أعدّ أي مادة صحفية من داخل سوريا. كان الصحفي المتوفى أنتوني شديد مرشدا وراعيا لي في مسيرتي المهنية، إذ تخرج من الجامعة نفسها التي تخرجتُ منها، وكتب في الصحيفة الجامعية نفسها التي كتبتُ فيها، وقد حثّني على الانتقال إلى القاهرة والعمل كصحفية من هناك كما فعل هو بعد ما تخرج من جامعة ويسكانسون-ماديسون. وبعد وفاته، لم أكن أعرف أي شخص من زملاء المهنة لأستشيره حول طبيعة عمل الصحفي المستقل في مناطق النزاعات. وكان بعض المحررين الذين عملت معهم قد بدأوا مسيرتهم المهنية في البوسنة، ولكن ليس كصحفيين مستقلين وإنما كوظفين في مؤسسات إعلامية. وعرفت سريعاً بأن الفرق بين هذين النوعين من الصحفيين هو فرق مهم، وخصوصاً في مناطق النزاعات.
كان الربيع العربي، ومن نواحي عديدة، مجالاً جديداً للصحفيين المستقلين الشباب. فلم يسبق من قبل أن أُتيح لنا تغطية هذا العدد الكبير من القصص الصحفية من منطقة واحدة. ولم يسبق من قبل في التاريخ الحديث أن اعتمدت التغطية الصحفية لنزاع ما، وإلى هذا الحد، على أشخاص مثلنا، لا سيما وأننا كنا غالباً نفتقر للتدريب والدعم الذي قد تقدمه المؤسسات الإعلامية الراسخة.
وكان معظمنا في سنوات العشرين من أعمارنا ونعمل من القاهرة. وكان بعضنا قد انتقل إليها لتعلم اللغة العربية؛ وكان آخرون يدرسون كونهم حصلوا على بعثات فولبرايت التعليمية. وكانت كلفة المعيشة هناك منخفضة، وتتوفر إمكانية السفر بالجو إلى بلدان الربيع العربي الأخرى وبكلفة منخفضة. وكانت القاهرة مكاناً مثاليا لبدء مسيرة مهنية في الصحافة.
وكنا جمعياً معشر الصحفيين المستقلين في القاهرة نعرف بعضنا بعضاً، وعلى الرغم من أن العديد منا كنا نتنافس للحصول على وظائف في المؤسسات الإعلامية ذاتها، إلا أننا تشاطرنا بالمصادر الصحفية والمعارف والمساعدين الصحفيين.
ولم يكن أمامنا خيار آخر غير ذلك.
لم يكن المحررون الصحفيون يزودوننا بأية إرشادات لوجستية، ناهيك عن تزويدنا بتدابير إمنية. والعديد منهم لم يقدموا أي نوع من الإرشادات. ومع ذلك كان يوجد عدد قليل من الصحفيين المستقلين الأكبر سناً في المنطقة وممن عملوا في تغطية مناطق الحروب سابقاً. وكان أحدهم جيمس فولي، وهو يتمتع بموهبة رائعة بالكتابة، وكان أحد الصحفيين القلائل الذين مدوا لي يد المساعدة عندما بدأت في مسيرتي المهنية.
ومع مرور الوقت، توسعت هذه المجموعة من الصحفيين المستقلين وامتدت شرقاً إلى إسطنبول، حيث انتقل العديد من الصحفيين بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في مصر، وما زالوا يعيشوا في إسطنبول حالياً.
وبسبب افتقارنا إلى أي هيكل رسمي، عملنا على تطوير مجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي لاستخدمها في تبادل المعلومات وتوفير النصائح حول التغطية الصحفية في أماكن مثل سوريا. ولم يكن في وسعنا القيام بفحص خلفيات المساعدين الصحفيين بصفة رسمية، لذا اعتمدنا على بعضنا البعض من أجل الحصول على توصيات بهذا الشأن. حتى أننا كنا نستأجر سترات واقية من الرصاص ونعيرها لبضعنا البعض ونتبادلها في قاعات المطارات.
لم نكن نمتلك أي بوليصات تأمين أمنية أو طبية. وكان بعضنا يستخدم التأمين الذي توفره منظمة ‘مراسلون بلا حدود’، إلا أن العديد منا لم يمتلكوا أي تأمين – فكانت كلفته العالية تمنعنا من شرائه. وكان التأمين الوحيد هو معرفتنا بأن أصدقاءنا وعائلاتنا يتتبعون تحركاتنا قدر استطاعتهم باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وعندما كنت في سوريا للمرة الأولى كان بوسعي إجراء مكالمات دولية من هاتفي الخلوي. وإذا قدت السيارة إلى مسافة قريبة بما يكفي من الحدود التركية كان بوسعي إرسال رسائل هاتفية نصية لأبي وأمي لأخبرهما بأنني بخير. حتى أنني اضطررت في إحدى المرات إلى إرسال قصة إخبارية باستخدام الرسائل الهاتفية النصية، فهذه كانت الوسيلة الوحيدة المتاحة لي، وكثيراً ما كانت خدمات الاتصالات الخلوية تتعطل بحيث لم يعد بإمكاني إجراء أية اتصالات. ولم تكن الهواتف الساتلية خياراً متاحاً لي، إذا أن كلفتها عالية جداً.
وفي نهاية المطاف، قمنا نحن الصحفيون المستقلون بتنظيم أنفسنا في نظام دعم أكثر رسمية. وسجلنا أنفسنا في مجموعة ‘صحفيون حاصلون على تدريب في إنقاذ الزملاء’ (RISC) التي يديرها الصحفي الأمريكي سيباستيان جونغير، كما سجلنا في عضوية منظمة ‘فرونتلاين فريلانس ريجستر’، التي شاركت في تأسيسها الصحفية آنا داي والتي عملت في التغطية الإخبارية من سوريا. ومع مرور الوقت نشأت جماعات جديدة لدعم الصحفيين المستقلين ومناصرة قضاياهم. كما قامت الصحفية لورين بوهن، وهي من الصحفيين المستقلين القلائل الذين كانوا في مصر أثناء الثورة، بتأسيس مجموعة ‘فورين بوليسي إنتربتد’ (إقحام صوت المرأة في السياسة الخارجية)، وهي خدمة مكرسة لنشر التغطية الإعلامية التي تقوم بها النساء، والتي تنتجُ الصحفيات المستقلات جزءا كبيرا منها.
وكثيراً ما يسألني الصحفيون الشباب الطامحون عن كيفية بدء مسيرة مهنية بالصحافة، ويعتقد العديد منهم أن السبيل الوحيد للشروع في العمل هي الانتقال إلى بلد آخر والبدء في إرسال مواد إلى مؤسسات صحفية على أمل نشرها. وأنا أخبرهم كيف بدأت مسيرتي المهنية، إلا أنني أنبههم إلى أنني لا أعلم إذا كان المسار الذي سرت فيه هو الإجابة الصحيحة على سؤالهم. والحقيقة أنني أتساءل في نفسي ما إذا كنت قد اتخذت القرار الصحيح بالعمل كصحفية مستقلة من أماكن مثل سوريا. وأتساءل حول مدى صواب القرارات التي اتخذتها، وأتأمل فيما كان سيحدث لو أنني بقيت هناك لفترة أطول. فالصحفيان جيمس فولي وأوستن تايس اختطفا بعد أسبوع واحد من مغادرتي.
أما الأمر الذي أنا متأكدة منه فهو أنه يوجد حالياً مجال للصحفي الطامح كي يبدأ مسيرته المهنية إذا كان راغباً بذلك، ولكن هذه المسيرة المهنية يجب أن تبدأ بالعمل كصحفي مستقل، لا سيما إذا أراد أن يكتب للجمهور العالمي. وفي هذا القطاع الإعلامي الذي لا ينفك يقول للصحفيين الشباب أنه ينبغي عليهم العثور على مهنة أخرى إذ لم تتبقَ وظائف فيه، فإن تناقص عدد الموظفين العاملين في جمع الأخبار، وازدياد خشية العديد من المنظمات الإعلامية من تعريض الموظفين المتبقين لديها للخطر، يشجع الصحفيين الشباب على اتخاذ مخاطرة كبيرة والبدء بالعمل الصحفي من خلال إعداد مواد إعلامية من مناطق نائية، وغالباً ما تكون خطيرة. ويجد هؤلاء الصحفيون أنفسهم، ومن نواحي كثيرة، يعملون بمفردهم ويواجهون تحديات تتراوح ما بين الاعتداءات البدنية إلى القرصنة الإلكترونية، وذلك كي يتمكنوا من نشر القصص الإخبارية للعالم الواسع.
إيرين بانكو هي مراسلة صحفية متخصصة بالشرق الأوسط تعمل في مجلة ‘إنترناشنال بزنس تايمز’، وهي خريجة كلية الشؤون الدولية والعامة في جامعة كولومبيا.