5. زيادة الضغط وفرض الامتثال
زادت الأمم المتحدة تركيزها على مسألة قتل الصحفيين، وأعلنت أن الاعتداءات ضد الصحفيين التي تظل بلا عقاب تمثل تهديداً رئيسياً ليس فقط لحرية الصحافة، بل أيضاً لجميع مجالات العمل الرئيسية للأمم المتحدة. وقد أقرت الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة قرارين يتناولا أمن الصحفيين ومسألة الإفلات من العقاب، وأطلقت خطة عمل بهذا الشأن. وأتت هذه الإجراءات الأخيرة لتضيف إلى قرار مجلس الأمن رقم 1738 الذي شجب الاعتداءات ضد الصحفيين في مناطق النزاعات. وأعلن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي-مون، في تصريح له عشية اليوم الدولي لحرية الصحافة في 3 مايو/أيار 2014، “يجب ألا يفلت من العقاب أولئك الذين يستهدفون الصحفيين بالعنف”.
تُضيف هذه الجهود الجديدة إلى سلسلة من القرارات والإجراءات الخاصة والاتفاقيات التي صدرت عن الأمم المتحدة على مر السنين والتي استهدفت مكافحة العنف ضد الصحفيين. ومن بينها العمل الذي يقوم به المقررون الخاصون، وعملية الاستعراض الدوري الشامل، وأحكام قانون حقوق الإنسان الدولي التي تنص على حرية التعبير والحق في الحياة وحماية المدنيين في النزاعات المسلحة. ولكن عندما يأتي الأمر إلى إنهاء الإفلات من العقاب، فإن سجل الأمم المتحدة ضعيف في هذا المجال، حسب ما تُظهر بيانات لجنة حماية الصحفيين. وعادة ما تقصّر الدول عن تنفيذ التوصيات الصادرة عن آليات الأمم المتحدة، كما ينتشر بين الدول تفضيل للدبلوماسية الهادئة بدلاً من فضح الدولة التي لا تلتزم بالتوصيات، وهذا لا يساعد على فرضها.
“وقالت ميشيل مونتاس، وهي صحفية من هايتي والمتحدثة الرسمية السابقة باسم الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي-مون، “في حين أن تلك المنظمات والصكوك الدولية الموجودة مفيدة، إلا أنها لا تستطيع إجبار الحكومات المحلية على مقاضاة مرتكبي الجرائم”. وتدرك مونتاس على نحو مباشر الإحباط الناجم عن الحرمان من العدالة، فقد اغتيل زوجها جين ليوبولد دومينيك في عام 2000، وكان يملك محطة إذاعية، ولم يُدان أحد بهذه الجريمة.
أن الوسيلة الأكثر مباشرة لدى الأمم المتحدة للتصدي للإفلات من العقاب في قضايا قتل الإعلاميين، تتبع لولاية منظمة اليونيسكو. ولكن إذا كان سجل المنظمة يمثل مؤشراً فيما إذا كانت الدول الأعضاء مستعدة للوفاء بالتزاماتها في مجال مكافحة الإفلات من العقاب، ولو إلى الحد الأدنى، فإن هذا المؤشر يشكل مصدراً للقلق.
يطلب المدير العام لليونيسكو من الدول الأعضاء مرة واحدة في كل عامين تقديم معلومات محدّثة حول وضع التحقيقات القضائية بشأن قضايا مقتل الصحفيين، إضافة إلى معلومات حول الإجراءات التي اتخذتها الحكومات لإخضاع مرتكبي هذه الجرائم للعدالة. ويتم تجميع إجابات الدول في التقرير بشأن سلامة الصحفيين وخطر الإفلات من العقاب الذي يصدر مرة واحدة كل سنتين. وتنشر المنظمة على موقعها الإلكتروني معلومات حول المستجدات التي تحدث في الفترة الواقعة بين إصدار التقارير. وتقدم الحكومات المعلومات “على أساس طوعي” وذلك حسب مقتضيات القرار بشأن سلامة الصحفيين ومسألة الإفلات من العقاب الذي أقرته وفود الدول في عام 2008. وبوسع الدول أن تقدم إجابات عن جميع القضايا التي يصدر المدير العام للمنظمة شجباً بشأنها، وقد تكتفي الدول بتقديم إجابات عن بعض هذه القضايا، وقد لا تقدم أية إجابات، وبوسعها أيضاً أن تحدد ما إذا كانت ترغب بأن يتم الإعلان عن إجاباتها أو إبقائها طي الكتمان.
أصدرت اليونيسكو في عام 2014 تقريراً بعنوان ‘الاتجاهات الدولية في حرية التعبير وتطوير الإعلام’، وأوردت فيه تحليلاً لإجابات الدول. ووجد التقرير أنه بحلول منتصف عام 2013، كان 42 بالمائة فقط من الدول قد استجاب لأسئلة المدير العام بشأن جرائم قتل الصحفيين التي وقعت بين عامي 2007 و 2012. أما التقرير الأحدث، والذي سيصدر في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، فإن الرقم يعكس نقصاً أكبر في المشاركة. فوفقاً للمعلومات المتوفرة في بدايات سبتمبر/أيلول 2014، استجابت 23 دولة فقط من مجموع 62 دولة، أي ما يشكل أقل من 40 بالمائة من المجموع. وكانت معظم الدول قد زعمت أن التحقيقات جارية ولكنها لم توفر سوى تفاصيل ضئيلة. ووافقت 14 دولة فقط على نشر إجاباتها.
تدل هذه الجهود الفاترة على أن الخضوع للمساءلة بشأن الإفلات من العقاب في جرائم قتل الصحفيين يحتل مرتبة متدنية على سلم أولويات الدول، أو أن الأمر ينطوي على تحديات سياسية كبيرة، خصوصاً للدول التي لا تقوم السلطات فيها إلا بقدر ضئيل من المتابعة. ويعزو غاي بيرغر، مدير قسم حرية التعبير وتطوير الإعلام التابع لمنظمة اليونيسكو، نتائج التقرير إلى مزيج من نقص تدفق المعلومات ضمن الحكومات، ونقص قدرات بعض الدول على رصد جرائم قتل الصحفيين، إضافة إلى شواغل بشأن الصورة التي تعكسها البلدان عن نفسها. ويقول غاي بيرغر، “ليس هناك حكومة ترغب بأن ترتبط سمعتها بالفشل في مجال سيادة القانون وإعمال العدالة، وينطبق هذا الأمر بصفة خاصة فيما يتعلق بقضايا الصحفيين، والتي من المرجح أن تتسبب بتغطية إعلامية سلبية”. وقال إنه يجدر بالبلدان، بدلاً من ذلك، أن تنظر إلى هذه العملية كوسيلة للتصدي للانتقادات من خلال إظهار أن ثمة مستوى معين من التحقيقات والملاحقات القضائية جارية، حتى وإن لم تكن مكتملة.
وأثارت لجنة حماية الصحفيين شواغل بشأن انخفاض معدل الإجابات في هذه العملية وشح المعلومات المتوفرة عنها. ومن بين البلدان التي لم تشارك في العملية، والتي يزيد عددها عن خمسة وثلاثين بلداً، يشهد العديد منها عنفاً ضد الصحافة وظهرت بصفة متكررة على مؤشر الإفلات من العقاب الذي تصدره لجنة حماية الصحفيين، وهي: أفغانستان، وبنغلاديش، والهند، والعراق، والصومال، ونيجيريا. وإذا ما قصّرت تلك الدول الأعضاء وغيرها عن الامتثال على نحو شفاف بعملية الإبلاغ والتقارير، فسيكون من غير المرجح أنها ستفي بالتزامات أصعب، كتنفذ خطة عمل الأمم المتحدة بشأن سلامة الصحفيين ومسألة الإفلات من العقاب.
ومع ذلك، ثمة آمال عريضة بين المسؤولين الدوليين بشأن خطة العمل. وقال غاي بيرغر قبل عامين عند تقديم وثيقة الأمم المتحدة هذه إلى الجمهور الدولي، “من المحتمل أن تؤدي هذه المبادرة إلى تغيير قواعد اللعبة”. تتسم خطة عمل الأمم المتحدة ووثيقة استراتيجية التنفيذ المصاحبة لها والمكونة من 31 صفحة بأنهما وثيقتان طموحتان. ويقترحان أن تقوم وكالات الأمم المتحدة، والدول، والجماعات المعنية بحرية التعبير، ووسائل الإعلام بتحسين التنسيق فيما بينها والعمل على رفع مستوى الوعي بهذا الشأن وتطوير برامج لحماية الصحفيين ومكافحة الإفلات من العقاب في قضايا العنف الذي يستهدف الصحافة. ويوفر القرار وخطة تنفيذه ولاية سياسية وخريطة طريق، مما يعتبر مزيجاً نادراً لمجتمع الأمم المتحدة.
درست لجنة حماية الصحفيين كيفية تكريس هذه الخطة، والتي تشارف على نهاية عامها الثاني، في ثلاثة من البلدان الأربعة التي تم تحديدها من أجل تنفيذ الخطة فيها خلال المرحلة الأولى للخطة، وهي العراق وباكستان ونيبال، وجميعها بلدان وثقت لجنة حماية الصحفيين فيها مستويات عالية من الإفلات من العقاب والاعتداءات ضد الصحفيين (أما البلد الرابع، جنوب السودان، فعلى الرغم من انتشار الانتهاكات ضد الصحافة فيه، إلا أنه لا يعاني من معدلات عالية لقتل الصحفيين، وفق أبحاث لجنة حماية الصحفيين. كما أن بلدان الأمريكيتين هما موضع تركيز للتنفيذ المبكر للخطة).
وعلى الرغم من أن الإحصائيات، حسبما تفحصناها في فصل سابق من هذا التقرير، لا تظهر سوى أثراً ضئيلاً للخطة، إلا أنها أدت في بعض الأماكن إلى تنشيط الفاعلين المحليين ووفرت الزخم لمبادرات مكافحة الإفلات من العقاب. بيد أن هذه المبادرات معرضة للانتكاس إذا لم تقم وكالات الأمم المتحدة بزيادة مستوى مشاركتها. وفي أحد هذه البلدان، أخفقت الجهود لإشراك الجهات المعنية إخفاقاً ذريعاً.
حققت الخطة أكبر نجاح لها في باكستان، فقد عُقد في إسلام أباد في مارس/آذار 2013 اجتماع تخطيطي دولي، وقررت على أثره جماعات المجتمع المدني والصحفيون توحيد جهودهم وتأسيس ‘التحالف الباكستاني لسلامة الإعلام’. ونفذ التحالف عدة مشاريع، من بينها تطوير مؤشر سلامة الصحفيين. واتفق أعضاء التحالف على وجود حاجة لتعيين مدعٍ عام خاص، وهم يعكفون حالياً على إعداد مشروع قانون بهذا الشأن. وقال أويس إسلام علي، وهو عضو اللجنة التنسيقية للتحالف والأمين العام لمؤسسة الصحافة الباكستانية، إن أكبر الإنجازات تمثّل في خلق الزخم وحشد جهود الجهات الفاعلة الرئيسية، بمن فيهم المؤسسات الإعلامية الرئيسية مثل النقابة الاتحادية للصحفيين الباكستانيين، ورابطة جميع باكستان للصحف، ومجلس محرري الصحف الباكستانيين.
وقال الصحفي المخضرم إقبال خاتاك، وهو عضو في اللجنة التنسيقية للتحالف، إن وجود الخطة التي وضعتها الأمم المتحدة جلب جهة فاعلة جديدة إلى مائدة الحوار: وهي الحكومة. وقال خاتاك، “لقد ساعدت خطة عمل الأمم المتحدة على إضفاء الشرعية على جهود مكافحة الإفلات من العقاب”. ويعمل وزير الإعلام الباكستاني، برفيز رشيد، حالياً عضواً في اللجنة التنسيقية للتحالف.
وعلى الرغم من أن الخطة نشأت في أروقة الأمم المتحدة، إلا أن وكالات الأمم المتحدة في باكستان كانت بطيئة في الانهماك فيها. وقال خاتاك، “لم تنهض اليونيسكو بالدور القيادي الذي كنّا نتوقعه منها”. وفي الوقت نفسه، برزت انشقاقات في الأوساط الإعلامية الباكستانية هذا العام بعد إطلاق الرصاص على الصحفي حامد مير، مقدم البرامج في تلفزيون ‘جيو’، مما أضعف تقدم التحالف. فبعد أن بث تلفزيون ‘جيو’ اتهامات بأن جهاز المخابرات الباكستانية كان وراء الاعتداء على حامد مير، عمدت الحكومة إلى تعليق عمل المحطة التلفزيونية، كما تلقت المحطة انتقادات شديدة من وسائل إعلام أخرى.
أما نيبال، فكان التركيز الرئيسي للجهود المعنية بخطة العمل، والتي بدأت في يونيو/حزيران 2013، هو تأسيس إطار ملائم لمعالجة قضية أمن الصحفيين ومكافحة الإفلات من العقاب. وقد وافقت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في نيبال على الإشراف على تطوير هيئة جديدة معنية بهذه القضية، وتم سن ميثاق بالتشاور مع الجهات المعنية، بمن فيها صحفيون ومنظمات دولية.
ومن المتوقع لهذه الآلية أن تجمع عدة أطراف من بينها ممثلون حكوميون، ومسؤولون من الشرطة، واتحاد الصحفيين النيباليين، إضافة إلى خبراء مستقلين وممثلين عن اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، وذلك لرصد القضايا التي تتعلق بالاعتداءات على الصحفيين وعلى المدافعين عن حقوق الإنسان، والاستجابة إلى التهديدات من خلال فرض إجراءات عقابية.
وكما هي الحال في باكستان، يرغب النشطاء المحليون بأن تزيد وكالات الأمم المتحدة انهماكها في هذه المسألة. وقال بينود بهاتاري، “إن تعاون وكالات الأمم المتحدة بشأن خطة العمل ليس بارزاً بما يكفي”، ويعمل بهاراتي مستشاراً في مجال الإعلام والاتصالات في نيبال ويساعد منظمة الدعم الإعلامي الدولية التي تتخذ من الدانمرك مقراً لها، في إدارة عدة برامج مرتبطة بخطة العمل. ويضيف بهاتاري القول، “لقد حدث بعض التعاون المالي، حيث قدم صندق الأمم المتحدة للسلام في نيبال دعماً لمشروع سلامة الصحفيين الذي تديره منظمة اليونيسكو، ولكنني لا أشعر بأن سائر وكالات الأمم المتحدة تبذل جهوداً كافية من أجل إعداد برامجها بما يتواءم مع خطة العمل”.
ويقول تيمو باكالا، منسق الأمم المتحدة المقيم في باكستان، “تعمل وكالات الأمم المتحدة معاً بصفة وثيقة في باكستان، إلا أن كل منها تقوم بأبرز أنشطتها في إطار اختصاصاتها”. ويرأس المنسق المقيم فريق الأمم المتحدة القطري ويعمل على تعزيز الاتساق والفاعلية في الأنشطة التشغيلية للوكالات والصناديق والبرامج المختلفة التابعة للأمم المتحدة على المستوى القطري. ووفقاً لباكالا، يقوم رؤساء الوكالات والصناديق والبرامج التابعة للأمم المتحدة في باكستان بمناقشة الخطة بصفة منتظمة، ويقول “الصورة الظاهرة لا تعكس دائماً العملية التي تدفع التنفيذ”.
وفي العراق، والتي شهدت تصاعداً في حدة العنف الطائفي خلال العام الماضي، فإن ضعف تواجد الأمم المتحدة على الأرض والانقسامات بين الجهات المعنية لم يسمح ببدء تنفيذ الخطة. وكان من المفترض أن يعقد اجتماع في العاصمة الأردنية، عمان، تشارك فيه الجهات المعنية، إلا أنه لم يُعقد. ويقول آكسيل بلاث، مدير مكتب اليونيسكو في العراق، “لقد كان إلغاء الاجتماع في اللحظة الأخيرة دلالة على صعوبة جمع الجهات المعنية معاً”. وأضاف أن اليونيسكو ووكالات أخرى تابعة للأمم المتحدة تحاول إحياء تنفيذ الخطة. وأشار بعض المراقبين أن معظم موظفي اليونيسكو المعنيين بالعراق يعملون من الأردن، وذلك بسبب التدهور الأخير في الأوضاع الأمنية في العراق، مما يجعل من الصعب الشروع في جهود بناء توافق الآراء الضروري من أجل تكريس الخطة.
وأعربت جماعات الصحفيين عن شكوك بشأن إمكانات الخطة نظراً للعنف وانعدام القانون السائدين في العراق. وقال رحمان غريب، مدير مركز مترو للدفاع عن الصحفيين، “النقص ليس في المشروع بل في المؤسسات التي لا تتمكن من فرض القوانين”. وطرح رحمان غريب عدة اقتراحات من بينها التركيز على تشجيع الصحفيين على إبلاغ الشرطة عن جميع الاعتداءات وتدريبهم على المسائل القانونية.
وأعربت جهات عديدة من شتى المناطق، ومن بينها جماعات معنية بحرية الصحافة ومراقبون وخبراء من الأمم المتحدة من المطلعين على خطة العمل، عن اعتقادها بأن النجاح في هذا المسعى يتطلب مزيداً من الاهتمام من الأمم المتحدة ومزيدا من التمويل ووعياً أكبر بشأن هذه المبادرة. (على الرغم من مشاركة وزير الإعلام الباكستاني في التحالف في باكستان، إلا أن رئيس الوزراء نواز شريف لم يكن يعلم بوجود التحالف أو خطة العمل عندما أثارت لجنة حماية الصحفيين هذا الأمر أثناء اجتماعها معه في مارس/آذار 2014.) كما اقترحت هذه الجهات بأن تأخذ الأمم المتحدة في الاعتبار مسألة سلامة الصحفيين ومكافحة الإفلات من العقاب عند تأسيس أو تجديد عمليات حفظ السلام في بلدان معينة.
وقال غاي بيرغر إن خطة الأمم المتحدة ستنجح في الأماكن التي يسود فيها الإدراك بأن تأثير الاعتداءات على وسائل الإعلام لا يقتصر على الصحافة. ويقول، “قضايا السلامة ومكافحة الإفلات من العقاب هي جزء من محيط أوسع يتطلب مجموعة معقدة من التدخلات لمعالجته”. وهذا الفهم مهد الطريق لتبني قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2013 بشأن سلامة الصحفيين ومسألة الإفلات من العقاب، حسبما يقول بيرغر وآخرون.
تمتلك الهيئات الحكومية الإقليمية أيضاً هياكل يمكن استخدامها لمكافحة الإفلات من العقاب وفرض مسألة حماية الصحفيين من خلال الشجب العلني، واستخدام المقررين الخاصين وآليات تقديم الشكاوى. إلا أن أداء هذه الهياكل ليس أفضل من نظرياتها التابعة للأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بالتزام الدول غير الراغبة أصلاً بالالتزام. وتقول دينيز يازيجي، وهي مساعدة بحث في مكتب حرية الإعلام التابع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، “لا تفي بعض الدول المشاركة بالتزاماتها، وفي هذه الحالات يكون نقص الإرادة السياسية بهذا الشأن واضحاً”.
إن أحد الوسائل التي تحقق بعض المكتسبات في الكفاح ضد الإفلات من العقاب هي شبكة المحاكم الإقليمية. فقد صدرت قرارات قوية عن هيئات مثل محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ومحكمة العدل التابعة للجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، والمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب، فقد أصدرت هذه الهيئات قرارات بشأن مقتل صحفيين في غامبيا وبوركينا فاسو وتركيا وأوكرانيا والمكسيك وكولومبيا والبرازيل. وبما أن هذه المحاكم لا تملك سلطات كبيرة لفرض قرارتها، فلا تمتثل الدول إلا على نحو ضعيف بهذه القرارات وأحياناً تتجاهلها تماماً، وغالباً ما تنص هذه الأحكام على إعادة التحقيق أو توسيع نطاق الملاحقة القضائية. ومع ذلك، أصبحت العملية بحد ذاتها وسيلة مهمة لتسليط الضوء على الإفلات المنهجي من العقاب ولمنع الحكومات من إغلاق قضايا لا ترغب بمعالجتها.
ثمة مثال جيد بهذا الشأن في أفريقيا، حيث استخدم مناصرو العدالة وحرية الصحافة آلية غير معروفة، وهي محكمة العدل التابعة للجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، من أجل تحدي ظاهرة الإفلات من العقاب الراسخة في غاميا، وذلك عبر ثلاث دعاوى قضائية تتعلق بالعنف ضد الصحفيين. وقد رفعت مؤسسة الإعلام لغرب أفريقيا اثنتين من هذا الدعاوى، وهما تزعمان بأن غامبيا مسؤولة عن اختفاء الصحفي إبراهيم منّه، والذي شوهد لآخر مرة عندما كان محتجزاً لدى سلطات الدولة في عام 2006، وكذلك أن الدولة قامت بتعذيب المحرر الصحفي موسى سيديخان، والذي احتجز لمدة ثلاثة أسابيع في عام 2006. وفي هاتين القضيتين، لم تقم الحكومة حتى بإرسال ممثلين عنها إلى المحكمة، لذا فقد أصدرت المحكمة حكماًغيابياً وأمرت في عام 2008 بالإفرج عن إبراهيم منّه، كما أصدرت حكماً في عام 2010 بتعويض موسى سيديخان، الذي يعيش في المنفى حالياً. ولكن سلطات غامبيا لم تمتثل لأمر المحكمة، ولم توفر الحكومة أية معلومات حول إبراهيم منّه.
ولكن عند رفع الدعوى القضائية الثالثة، والتي تتحدى الإفلات من العقاب في جريمة قتل الصحفي ديدا هيدارا في عام 2004، وهو مؤسس الصحيفة المستقلة “ذي بوينت”، اهتمت السلطات الغامبية بالأمر. وقال روبرت سكيلبيك، “لقد حدث تغيّر في موقف السلطات الغامبية”، ويعمل سكيلبيك في مبادرة العادلة في معهد المجتمع المفتوح، والتي عملت مع محامين إقليمين ومع الاتحاد الدولي للحقوقيين ومع أبناء هيدارا، من أجل رفع القضية. وقال سكيلبيك، “لم تستجب الدولة أبداً في قضيتي إبراهيم منّه وموسى سيديخان. ولكنها أرسلت هذه المرة إجابات مكتوبة، وانهمكت انهماكاً تاماً في العملية، وأرسلت ممثلين عن مكتب النائب العام”.
وفي يونيو/حزيران 2014، أعلن القضاة أن وكالة الاستخبارات الغامبية الوطنية لم تُجرِ تحقيقات ملائمة في جريمة قتل هيدارا، الذي كان يوجّه نقداً مستمراً للسياسات القمعية التي ينتهجها الرئيس الغامبي يحيى جامع. كما قال القضاة إن وكالة الاستخبارات “ليست هيئة محايدة بحيث تكون مؤهلة لإجراء التحقيق”، إلا أن القضاة لم يتوصولوا إلى أن ثمة أدلة تربط الحكومة الغامبية بجريمة القتل. وأمرت المحكمة بمنح أسرة هيدارا دفعة مالية قدرها خمسين ألف دولار أمريكي تعويضاً لها عن تقصير الحكومة عن التحقيق بصفة فاعلة في الجريمة، إضافة إلى مبلغ عشرة آلاف دولار بدل التكاليف القانونية. ومع ذلك، لم يصدر عن الحكومة الغامبية لغاية سبتمبر/إيلول 2014 أية تصريحات ولم تقم بأية إجراءات بخصوص التعويضات التي أمرت بها المحكمة، وذلك وفقاً للمحامي ديندام كيلي، وهو أحد المحامين الذين يمثلون أسرة هيدارا.
أخذ قرار المحكمة بالاعتبار النمط المتراكم للقضايا الثلاث، وذلك كإثبات على أن الحكومة الغامبية كانت تشجع مناخاً من الإفلات من العقاب مما يمثل بحد ذاته انتهاكاً لحرية التعبير. وقال روبرت سكيلبيك، “لقد أعربت المحكمة عن استنتاج واضح بأن حرية التعبير تعرضت للخنق بسبب ظاهرة الإفلات من العقاب. وهذه المحكمة هي محكمة إقليمية، لذا فأنها تؤسس سابقة قانونية لكل بلدان غرب أفريقيا. ويجب أن يكون هناك رد ملائم وفعال على الاعتداءات التي تستهدف الصحفيين”.
وكانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ملجأً آخر للأسر التي تسعى للعدالة بسبب قتل أحبائها، وتظهر تجاربهم بأنه من الممكن تحقيق تقدم جزئي على الأقل، وإن يكن يستغرق عدة سنوات.
ففي أوكرانيا، عندما اتضح أن السلطات لن تقوم من تلقاء ذاتها بمحاكمة قتلة الصحفي جورجي غونغادز، قامت أرملته، ميروسلافا غونغادز برفع دعوى أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وتسمح ولاية المحكمة بالنظر في الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان في الدول الأعضاء عندما يتم استنفاد جميع السبل المحلية للحصول على الانتصاف. وفي عام 2005، وجدت المحكمة أن السلطات الأوكرانية انتهكت عدة مواد من الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان – لا سيما في تقصيرها عن حماية حياة الصحفي وفي إجراء تحقيق في مقتله – وأصدرت أمراً للسلطات بدفع تعويض قدره 100,000 يورو (ما يعادل 118,000 دولار أمريكي آنذاك).
وعلى الرغم من هذا الحكم في مصلحة الضحية، وأن الحكومة الأوكرانية دفعت بالفعل مبلغ التعويض، تعيّن على ميروسلافا غونغادز أن تنتظر ثماني سنوات أخرى كي ترى المشتبه به الرئيسي، أليكسي بوكاتش، مداناً بارتكاب الجريمة. وهي ما تزال تنتظر مثول المحرضين على الجريمة أمام العدالة، وقد كانت المحكمة الأوروبية وسيلة حاسمة لتحريك عجلة العدالة. وقالت غونغادز، “كنت أكافح للعثور على وسيلة لدفع الحكومة لأن تظل مهتمة بالأمر. وقد تمكنت من رفع شكوى أمام المحكمة مما أبقى الحكومة الأوكرانية متيقظة للأمر لعدة سنوات. فقد كانت مضطرة للإجابة عن الأسئلة التي وجهتها المحكمة”.
أصدرت المحكمة الأوروبية حكماً في قضية أخرى بارزة زعمت بأن السلطات التركية تقاعست عن التصرف حيال معلومات كان يمكن أن تمنع قتل الصحفي هرانت دينك في عام 2007. وكان هرانت دينك هو مؤسس الصحيفة الأسبوعية ‘آغوس’ ورئيس تحريرها سابقاً، وقد اغتيل أمام مكتبه في إسطنبول في يناير/كانون الثاني 2007. وأجرت السلطات تحقيقات كشفت عن مشبته بهم فرعيين، رغم وجود أدلة تشير إلى أن مسؤولين في الشرطة والجيش علموا مسبقاً بوقوع الجريمة، إن لم يكونوا متورطين فيها مباشرة. ومن جراء ذلك شعرت عائلة دينك بالإحباط فرفعت دعوى أمام المحكمة الأوروبية، وكان الحكم في قضية دينك ضد تركيا حكماً شاملاً. فإضافة إلى النتيجة التي خرجت فيها المحكمة بأن تركيا انتهكت أحكام الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان المتعلقة بالحق في الحياة، وجدت المحكمة أيضاً أن السلطات التركية قصّرت في التزامها بحماية حرية التعبير والحق في الحصول على انتصاف فعال. ومع ذلك ظلت نتائج الحكم محدودة في تركيا، إذ لم يمثُل المسؤولون المتورطون في الجريمة أمام العدالة.
وقد أبرزت هذه القضية حقيقة أنه عندما تصدر إحكام عن محاكم إقليمية تكشف عن الظلم وتطالب بالإنصاف، فإنه إذا لم تلتزم الدولة المعنية، وإذا لم يُمارس قدر كافٍ من الضغوط السياسية لدفع الدولة إلى الالتزام، فسيظل تأثير حكم المحكمة محدوداً.