محمد كريشان – عضو مجلس لجنة حماية الصحفيين ومقدم البرامج في الجزيرة
مفاجآت الإدارة الأمريكية مع قناة “الجزيرة” لا تنتهي… آخرها ما كشفته مجلة دير شبيغل الألمانية الأسبوعية مؤخرا من أن وكالة الأمن القومي الأميركي (أن أس إيه) قامت بالتجسس على الاتصالات الداخلية لموظفي القناة ومديرها عام 2006، وذلك استنادا إلى وثيقة حصلت عليها من أرشيف إدوارد سنودن المحلل الأمني السابق بالوكالة. هذه الوثيقة اعتبرت أن ” اختراق وقراءة الاتصالات الداخلية المشفرة والمحمية للأهداف المثيرة بالجزيرة مثـّـل عملا مثمرا جدا” ، كما أن (أن أس أيه) وصفت الأهداف التي تجسست عليها في قنــاة “الجــزيرة ” بأنــها تـــعد “مصادر شديدة القيمة المعلوماتية المتعلقة بأنشطة أجهزة الاستخبارات ” مما قد يذهب بظن البعض أن الحديث يدور في الحقيقة عن مفاعل نووي أو مركز لتطوير أسلحة دمار شامل أو حتى قاعدة عسكرية مريبة و ليس محطة أخبار تلفزيونية!!
مفاجآت “الجزيرة ” مع واشنطن بدأت باستياء المسؤولين الأمريكيين من تغطية القناة لكل ما تلا أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 و ما عرف ب”الحرب على الإرهاب” و خاصة تغطية حربي أفغانستان (2001) و العراق ( 2003) فضلا بطبيعة الحال عن بث أشرطة مثيرة للجدل لزعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن. لم تقف الأمور عند حد الامتعاض الذي كان يبديه بالخصوص وزير الدفاع رونالد رامسفيلد ، بل امتد إلى قصف مكتبي القناة في كابول و بغداد الذي قتل فيه المراسل طارق أيوب . آخرون في المحطة دفعوا أثمانا من نوع مختلف تمثلت في بقاء مصور “الجزيرة” في كابول سامي الحاج زهاء السبع سنوات في معتقل “غوانتنامو” دون محاكمة قبل أن يطلق سراحه في الأول من مايو 2008 .
المفاجأة الأكبر كانت في أواخر عام 2005 عندما كشفت صحيفة “الديلي ميرور” أن “بوش خطط لضرب حليفه العربي”، و هو العنوان الذي صدرت به الصحيفة البريطانية التي أشارت آنذاك إلى وجود مذكرة سرية من مكتب رئيس الوزراء البريطاني تظهر أن الرئيس الأميركي جورج بوش أطلع بلير أثناء زيارة قام بها إلى واشنطن في أبريل عام 2004 على مخطط لقصف مقر “الجزيرة ” في الدوحة وعدد من مكاتبها في الخارج ، و أن بلير حذر بوش من أن القيام بقصف الجزيرة سيثير موجة غضب عالمية عارمة . “شكرا سيد بلير لمنعكم تلك الضربة”… هذا ما قلته مبتسما لرئيس الوزراء البريطاني حين زار مقر “الجــــزيرة “في قطر بعد تركه منصبه و اجتمع بعدد من القيادات التحريرية . ابتسم الرجل و أجاب، كعادته، بكلام عام لا يفيد لا النفي و لا التأكيد!!
لكل هذه السوابق غير السارة في العلاقة بين الجزيرة و واشنطن ، قد تكون الجزيرة فضلت التريث قليلا في التعقيب على ما نشرته “ديرشبيغل. و إذا ما تأكد تماما ما ذكرته “ديرشبيغل” فإن السلطات الأمريكية قد تكون اقتنعت بأن التجسس على الجزيرة ربما يكون أنجع و أقل ضجيجا من قصف مكاتبها أو حتى مقرها الرسمي. الطريف هنا أن دولة قطر مصنفة على أنها من أقوى حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بل إن “الجزيرة” نفسها كثيرا ما اتهمت، من قبل المتيّـمين بالتفسير التآمري لكل شيء، بأنها أساسا مشروع أمريكي لصياغة الرأي العام العربي على مقاسات واشنطن… فإذا بهذا الحليف الأمريكي يتجسس على حليفه و على القناة التي كان هو وراء إنشاءها؟!!
أما ما ليس مفهوما في ما نشرته “دير شبيغل” فهو وثيقة سنودن أشارت إلى أن خبراء التجسس الأميركيين قرروا التحول إلى التجسس المباشر على المراسلات الداخلية لموظفي الجزيرة، “بعد أن وجدوا أن التحليل اللغوي لما تبثه القناة لا يشفي غليلهم”!! . كيف يمكن لقناة مهمتها بث الأخبار التي لديها و الافتخار بأي سبق إخباري تظفر به أن تكون مراسلاتها الداخلية أهم مما تبثه في نشراتها الإخبارية و برامجها على الهواء ؟! و مع ما ينشره الصحافيون و المذيعون في صفحاتهم على “فايسبوك” و تغريداتهم في “تويتر” و مقالاتهم في صحف عديدة، هل ما زالت هناك نقاط ظل لفهم هذا التوجه أو ذاك للعاملين فيها ؟! أما إذا كانت المادة المستهدفة بالتجسس إدارية و مالية فهذه مسألة أخرى لا تبدو ذات مغزى شديد الأهمية عند الحديث عن وسائل الإعلام و مدى تأثيرها في الرأي العام.
وثيقة سنودن التي اطلعت “دير شبيغل” لم تظهر إلى أي مدى تجسست وكالة الأمن القومي الأميركي على الاتصالات الداخلية لموظفي الجزيرة ومديرها و لا ما إذا كان هذا التجسس ما زال مستمرا حتى الآن أم لا. إذا كان مستمرا فذلك يعني أن هذه المقالة وصلت المعنيين بالتجسس قبل أن تصل إلى هذا الموقع للجنة حماية الصحافيين في نيويورك!!