بقلم: جويل كمبانيا
في وقت العصر من أحد أيام الاربعاء في حزيران/يونيو الماضي، قام عملاء تابعون لأجهزة الأمن اليمنية بمداهمة منزل المحرر الصحفي الجريء عبد الكريم الخيواني، ثم جروه لمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة في العاصمة صنعاء. استجوبت النيابة العامة الخيواني، ثم وجهت له تهمة الانتماء لخلية إرهابية سرية–وهي تهمة يمكن أن يعاقب عليها القانون بالإعدام. وقد سبب هذا الاعتقال صدمة بين الصحفيين اليمنيين، وتساءل بعضهم صراحة ما إذا كان زميلهم المعروف بمقالاته المهيّجة التي يهاجم فيها الحكومة اليمنية وحربها ضد المتمردين في مدينة صعدة الواقعة في الشمال الغربي من البلاد، متورطا بأمر شنيع. وقد أصدرت لجنة حماية الصحفيين حينها تصريحات متحفظة أعربت فيها عن انشغالها، لأنها لم تكن متأكدة من أن هذه التهمة لا أساس لها من الصحة.
ولكن مع سير مجريات محاكمة الخيواني خلال عدة أسابيع، تبين أن هذا المحرر الصحفي ليس إرهابيا. وبدلا من ذلك ظهر أن “الأدلة” الضئيلة التي كشفت عنها النيابة العامة لا تتعدى بعض الصور الفوتغرافية، والمقالات و والمقابلات الصحفية ، وجدت في منزل الخيواني أثناء تفتيشه. ويبدو أن الملاحقة القانونية ضد الخيواني مدفوعة بسبب الانتقادات القاسية التي وجهها للرئيس علي عبدالله صالح، والذي لامه على اندلاع الحرب في صعدة، واتهم حكومته بممارسة الفساد على نطاق واسع. وكان الخيواني قد أمضى في السابق حكما بالسجن لمدة ثلاثة أعوام لقيامه بتوجيه انتقادات شبيهة، مما أدى حينها إلى موجة من الاستنكار الدولي لليمن وساعد على تقليص المعونة الأمريكية إليها بعدة ملايين من الدولارات. وفي تلك القضية الأبكر، كان واضحا أن الخيواني قد أودع السجن بسبب عمله؛ وفي عام 2007، يبدو أن المسؤولين اليمنيين تعلموا اتخاذ المسار غير المباشر. وقال الخيواني للجنة حماية الصحفيين، إن السلطات اليمنية عمدت إلى طمس الفرق بين إيراد التغطية الصحفية عن خصوم الحكومة وبين أن يكون المرء خصما، سعيا منها إلى “إضعاف التضامن” بين الصحفيين. تعد المحنة التي يعاني منها الخيواني نموذجا لأساليب المراوغة التي تستخدمها الحكومات العربية بصفة متزايدة لخنق وسائل الإعلام المستقلة، وفي الوقت نفسه لتخفيف التوبيخ الدولي إلى الحد الأدنى. وفي عالم اليوم المترابط، حيث يمكن للمعلومات حول الإساءات للحقوق أن تعبر العالم خلال دقائق، لم يعد بإمكان الحكومات أن تقمع حقوق الإنسان بوحشية كما كانت تفعل خلال عقد التسعينات، كما أن إدراكها بأن ممارستها للقمع بصورة سافرة قد تضر بمكانتها الدولية وتكلفها ثمنا باهظا من ناحية المساعدات الأجنبية والاستثمار الخارجي، لذلك فقد أخذت تتظاهر بانتهاجها الإصلاح الديمقراطي في حين لجأت إلى أشكال خفية من السيطرة على وسائل الإعلام. ووجدت تلك الحكومات أن المجتمع الدولي يستسيغ سياسيا التحكم المراوغ بوسائل الإعلام أكثر مما يستسيغ السيطرة المباشرة. كتب باحث العلوم السياسية، ستيفن هايدمان، في تقرير صدر عن مؤسسة بروكينغ في تشرين الأول/أكتوبر 2007، “نشأ في السنوات الأخيرة نموذج جديد من الحكم الاستبدادي في عدد من الدول العربية الرئيسية، وهو نتاج خبرات التجارب والأخطاء أكثر مما هو مخطط مقصود، فقد تكيفت الأنظمة العربية مع الضغوط لتحقيق التغيير السياسي من خلال تطوير استراتيجيات لاحتواء وإدارة المطالبات بنشر الديمقراطية”. وفيما يتعلق بوسائل الإعلام، وضعت الحكومات استراتيجيات جديدة لاحتواء الصحفيين الميالين الى ممارسة عملهم بشيء من الجرأة الذين ظهروا خلال العقد الأخير في بلدان مثل الجزائر والأردن والمغرب والسعودية واليمن. فقد حلت ممارسات الفصل من العمل، والتهديدات من خلف الستار، والملاحقات القضائية بتهمة التشهير التي ترفعها أطراف ثالثة، والتهم الملفقة بالإرهاب مثل التهمة الموجهة ضد الخيواني، محل ممارسات التعذيب والاختفاء القسري والسجن غير المحدد بفترة زمنية، والتي ميزت الحقبة الماضية. وإذ أدركت الحكومات أهمية صورتها العامة، فقد أصبحت أيضا محترفة بتشويش الحقائق، وأخذت تنادي بإصلاحات شكلية لوسائل الإعلام مصممة للاستهلاك العام بصفة أساسية. وبالطبع، فإن القمع السافر لوسائل الإعلام لم يختفِ تماماً. فما تزال الأجهزة الأمنية تقمع بشدة المراسلين الصحفيين في الشوارع في أماكن مثل مصر وتونس، ولكن مثل هذا القمع الظاهر أصبح انتقائيا أكثر من ذي قبل، كما أصبحت الحكومات أكثر تحوطاً. تعد المغرب نموذجا لهذه النزعة، إذ تعمل على صقل صورتها كبلد يشهد تحولا ديمقراطيا. فقد اعتمدت السلطات على دعاوى قضائية ترفعها أطراف ثالثة، إذ يستهل أفراد يزعم بأنهم مستقلون عن الحكومة، بهدف معاقبة الصحفيين الأكثر استقلالا في البلاد من خلال إجبارهم على دفع تعويضات نقدية باهضة تهدد بإفلاس صحفهم. وفي شباط (فبراير)، اضطر أبو بكر الجامعي، ناشر المجلة الإخبارية البارزة “لو جورنال إبدومادير”، لمغادرة البلاد بينما كانت السلطات القضائية تعد لمصادرة ممتلكاته بعد أن أصدرت حكما بدفع تعويض حطم الرقم القياسي في هذا المجال، فقد أقرت محكمة مغربية حكما بدفع تعويض بدل أضرار بلغ 3 ملايين درهم (ما يعادل 395,000 دولار أمريكي) ضد الجامعي–وكان الحكم الآخر الذي بلغ رقما قياسيا قد صدر ضد الناشر–وذلك خلال دعوى قضائية رفعها رئيس مؤسسة أبحاث تتخذ من بروكسل مقرا لها، والذي زعم إن مجلة “لو جورنال” شهّرت به في مقال شكك في نزاهة التقرير الذي أصدرته مؤسسته حول النزاع في الصحراء الغربية. وقد أعلم مصدر من القصر الملكي المجلة بأن الحكم القضائي كان في الحقيقة انتقاما منها بسبب نشرها صورة بشعة على غلافها للملك محمد السادس في عام 2005. وفي السنوات الأخيرة، أصدرت المحاكم أحكاما أخرى بدفع تعويضات باهضة جدا بدل أضرار في قضايا تشهير ضد صحف مستقلة مثل المجلة الأسبوعية الرائجة “تلكيل”. وقد أدت هذه الأحكام القضائية، إضافة إلى أشكال أخرى من المضايقات، إلى الهدف المرجو منها وهو إبعاد الصحفيين الناقدين وانتشار الرقابة الذاتية. وعلق أحمد رضا بنشمسي، ناشر مجلة “تلكيل” قائلا، “لقد أصبحنا بالتأكيد أكثر حذرا، مدركين أن أي شيء، حتى الكتابات أو الصور الأقل إيذاء يمكنها أن تقود إلى دعاوى قضائية–والله وحده يعلم نتيجتها”. وفي الجزائر، أودع محمد بن شيكو في السجن لمدة سنتين في عام 2004، وهو محرر صحفي جريء لصحيفة “لو ماتان” اليومية التي توقفت عن الصدور، وذلك بعد إدانته بمخالفات مزعومة لقوانين العملة. ولا يشك سوى بضعة صحفيين بأن السبب الحقيقي لسجن بن شيكو هو انتقاداته للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والذي وصفه بأنه “خدعة جزائرية” في كتاب صدر في وقت مبكر من ذلك العام. وفي تونس المجاورة، قامت الحكومة في عام 2005 بسجن المحامي في مجال حقوق الإنسان السيد محمد عبو وذلك بتهمة القذف بحق القضاء والاعتداء على محامية زميلة أثناء جدال بينهما–وهي تهم ملفقة ألصقت بمحمد عبو لإدانته بسبب قيامه بكتابة مقال على شبكة الإنترنت قارن فيه بين السجون التونسية وسجن أبو غريب الشائن في العراق. على الرغم من هذه الأضرار التي لحقت بحرية الصحافة في المنطقة، فإن الحكومات الاستبدادية غير عازمة على إسكات وسائل الإعلام الناقدة بقدر ما هي مصممة على السيطرة عليها من خلال استخدام أسلوب العصا والجزرة. قال أبو بكر الجامعي، “عليك أن تفهم المعادلة التي يلعبها النظام مع الصحافة في المغرب. فمن ناحية، هم يكرهوننا؛ ومن ناحية أخرى، هم بحاجة لنا. فإذا ذهبت إلى المغرب وزرت الديوان الملكي وقلت لأعضائه ‘أنتم نظام استبدادي’، فهل تعلم ما سيقولونه لك؟ سيقولون، ‘انظر إلى صحيفة لو جورنال، انظر لذلك المجنون أبو بكر جامعي وما يكتبه. كيف يمكنك أن تقول أننا لسنا بلد حر؟’ ولهذا فنحن نخدمهم بطريقة ما”. تلاعبت الحكومات العربية أيضا بعملية إصلاح وسائل الإعلام. فالأنظمة من مصر إلى اليمن أخذت تروج تعديلات شكلية على قوانين الإعلام التي ظلت تستخدم للسيطرة على الصحفيين. وأقر البرلمان التونسي، وسط حملة إعلامية كبيرة، سلسة من التعديلات الخالية من المعنى لقانون الصحافة في عام 2001، وأزال مادة غامضة الصياغة تحظر “التشهير بالنظام العام”، وألغى عقوبة السجن للانتهاكات المتعلقة بأنظمة الإعلان، وخفض عدد المرات التي يمكن للحكومة خلالها تعليق إصدار الصحف. لم ينشأ عن هذه التعديلات أية آثار عملية: فقد سجن أربعة صحفيين على الأقل في تونس بسبب عملهم منذ عام 2001، وظلت وسائل الإعلام المستقلة محاصرة. وفي الأردن، أيدت الحكومة تعديلات متتابعة على قانون الصحافة في البلاد بوصف ذلك خطوة رئيسية نحو الديمقراطية، إذ ألغت تلك التعديلات عقوبة السجن عن الصحفيين. ومع ذلك، فإن معظم الصحفيين والمعارضين الذين تم سجنهم خلال العقد المنصرم لم يدانوا بموجب قانون الصحافة، وإنما بموجب القانون الجنائي المتشدد، والذي ظل دون تغيير بما في ذلك العديد من التشريعات القمعية التي يحتويها. وقد نصت التعديلات الأخيرة على فرض غرامات باهضة يمكن استخدامها بسهوله لخنق التغطية الصحفية الناقدة. وفي المغرب، حيث سجن أربعة صحفيين خلال السنوات الخمس الماضية، تفاخر المسؤولون بقانون مقترح للصحافة في عام 2007 بوصفه خطوة رئيسية للأمام، إذ سيقلل عدد الأمور التي يحظر الكتابة عنها. ولكن مشروع القانون، والذي كان قيد البحث في آوخر العام، أبقى على عدد من المواد المتشددة التي قد تقود إلى سجن الصحفيين أو إفلاسهم بفعل الغرامات الباهضة. والأهم من ذلك، أن الحكومات أشاعت وهم التغيير في قطاع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ذي التأثير الكبير، والذي يظل معقلا لسيطرة الحكومة. فقد تبجحت الحكومتان السورية والتونسية بتحركهما نحو خصخصة الإذاعة والتلفزيون، ومع ذلك تم توزيع التراخيص بصورة انتقائية لأعوان النظام. فقد أطلقت سوريا محطات إذاعية خاصة في عام 2004، ولكنها منعت تلك المحطات من بث أخبار أو مواد سياسية. وفي أيلول (سبتمبر)، وبينما كان عدد كبير من مقدمي الطلبات ينتظرون ويتذمرون من بطء الاستجابة، سمحت السلطات التونسية لصهر الرئيس زين العابدين بن علي بإطلاق محطة إذاعية جديدة. أما المحطة التلفزيونية التونسية الخاصة الأولى، والتي تم ترخيصها في عام 2004، فيملكها رجل أعمال من مؤيدي النظام، ولا تختلف برامجها إلا قليلا عن برامج التلفزيون التونسي الحكومي. وبالطبع، أثّرت المحطات الفضائية العربية مثل قناة “الجزيرة” على احتكار الدول لوسائل الإعلام الإلكترونية، ولكنها لا تعوّض النقص في المحطات المحلية التي تغطي الأخبار المحلية وتوصلها إلى عدد كبير من الجمهور. لقد نجحت الحكومات العربية في التحكم بالصحفيين المستقلين من خلال إعاقة تطور وسائل الإعلام، أو كما حدث في بلدان مثل مصر والمغرب واليمن من خلال تقليص مكتسبات حرية الصحافة من خلال حملات قمع دورية. وعلى الرغم من التصريحات التي تطلقها الولايات المتحدة، وإلى حد أقل الاتحاد الأوروبي، حول نشر الديمقراطية، لم توفر الجهات الغربية المانحة أية حوافز للحكومات من أجل القيام بإصلاحات ذات معنى. ففي اليمن على سبيل المثال، قامت شركة ميلينيوم تشالينج [التحدي الألفي]، وهي وكالة مساعدات تابعة للحكومة الأمريكية، بتعليق مشاركة اليمن في برامجها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، مستشهدة بغياب الإصلاحات الديمقراطية وحرية الصحافة. ومع ذلك، استعادت اليمن مكانتها في عام 2007، مما أتاح لها تلقي ملايين الدولارات كإعانات تنموية. وبينما كانت المغرب تنفذ حملة قمعية ضد الصحافة في عام 2007، أقرت شركة ميلينيوم تشالينج حزمة مساعدات اقتصادية تبلغ 697,5 مليون دولار على فترة خمس سنوات–وهي أكبر منحة تقدمها هذه الوكالة منذ تأسيسها في كانون الثاني (يناير) 2004. وفي الأجزاء الأخرى من المنطقة، واصلت أموال المساعدات تدفقها، وبعضها لدعم وسائل الإعلام التي تخضع لسيطرة الدولة، أو تلك التي أعجزتها هذه السيطرة. وفي دول الخليج ، حيث المساعدات المالية الغربية قليلة جدا أو غير موجودة، استعادت دول حليفة مثل السعودية وعُمان علاقاتها الثنائية القوية حتى بينما كانت تنفذ حملات قمع ضد حرية وسائل الإعلام. يتعين على الجهات المانحة وجماعات حقوق الإنسان والجهات المنهمكة في نشر الديمقراطية، أن تعيد التفكير في استراتيجياتها كي تأخذ بالاعتبار الأساليب الجديدة التي تستخدمها الحكومات الاستبدادية. وكتب ستيفن هايدمان في التقرير الصادر عن مؤسسة بروكينغ، “لقد تكيفت [الأنظمة العربية] من خلال إعادة تنظيم استراتيجيات الحكم وتعديلها وفقا للظروف الدولية والإقليمية والمحلية الجديدة. فالأنظمة الاستبدادية لم تتراجع ببساطة عن الممارسات القسرية للتصدي للضغوط التي تطالب بالتغيير–على الرغم من أن القمع يظل عنصرا ظاهرا وفعالا في ترسانة الأنظمة العربية. وبدلا من ذلك قامت الأنظمة العربية بعملية يمكن وصفها على أفضل نحو بأنها ‘تحديث للاستبداد’. هذه الاستراتيجيات الناشئة للحكم أضعفت المكتسبات التي تم تحقيقها بفضل برامج نشر الديمقراطية، وسيتواصل تأثيرها في المستقبل”. أما جماعات مناصرة حرية الصحافة، فيتعين عليها السعي نحو رفع التكلفة السياسية والاقتصادية التي ستتكبدها الحكومات بسبب دوسها على حرية الصحافة. ويمكنها أن تبدأ بالكشف عن الإصلاحات الزائفة لقوانين الإعلام، وإزالة القناع عن الاعتداءات الخفية على الصحافة، وممارسة الضغوط على صانعي السياسة لتطوير معايير ذات معنى للتغيير. أما الجيوب المتناثرة لحرية الصحافة في المنطقة، فستتلاشى إذا لم يتصدَ الصحفيون لهذا التحدي الجديد. |