بقلم دانية الحجاجي، زمالة باتي بيرتش لأبحاث الشرق الأوسط في لجنة حماية الصحفيين
1 تموز/ يوليو 2019
في أحد أيام شهر مارس/ آذار 2015 أرسل هشام المنصوري رسالة بالبريد الإلكتروني لشركة مختصة بمكافحة البرمجيات الخبيثة إثر شكوكه بعلامات تشي بأن شخصاً ما قد تمكِّن عن بعد من الدخول إلى جهازه دون إذن منه. يذكر المنصوري أنه تبادل بضعة رسائل مع الشركة، لكن وبعد بضعة أيام انقطعت المراسلات بينهما إثر حضور نحو 10 عناصر من الشرطة يرتدون الزي المدني إلى بيته الكائن في الرباط لتوقيفه، وفقاً لما ذكره المنصوري للجنة حماية الصحفيين متحدثاً من باريس حيث يعيش الآن كلاجئ سياسي.
كان المنصوري آنذاك يعمل مدير مشروع في الرابطة المغربية للصحافة الاستقصائية يقوم على تنسيق التطبيق الآمن لرواية القصص “ستوري ميكر” والتحقيق في المراقبة الرقمية. وُجهت للمنصوري تهمة الزنا وحُكم عليه بالحبس، فيما استنكرت لجنة حماية الصحفيين تلك التهمة باعتبارها تهمة جنائية لُفقت له انتقاماً منه بسبب عمله هذا. وروى المنصوري للجنة أنه عندما عاد إلى حاسوبه بعد إخلاء سبيله في يناير/ كانون الثاني 2016 كانت رسائله الإلكترونية التي توثق شكوكه قد اختفت. ومن الواضح أنها حُذفت من حسابه في غيابه.
وتحدث العديد من الصحفيين الذين قابلتهم لجنة حماية الصحفيين في معرض إعداد هذا المقال عن حالات قصور في أداء أجهزتهم الإلكترونية على نحو يدفعهم للاعتقاد بأنهم تحت المراقبة. وأبلغ كثير منهم عن نشر محادثات خاصة لهم دون موافقتهم في محاولة واضحة لهز الثقة باستقلالية تقاريرهم؛ مما حدا ببعضهم إلى مغادرة البلاد أو ترك المهنة. وقد شكّل وضع الصحفيين المستقلين في المغرب تحت المراقبة وخروجهم الجماعي، ضربة قاصمة لحرية الصحافة في بلد يواجه صحفيوه المضايقات منذ عقود.
وذكرت الأكاديمية سامية الرزوقي المقيمة في كاليفورنيا للجنة حماية الصحفيين “لقد بلغنا اليوم نقطة لا يمكننا عندها القول بشكل قطعي إنه توجد صحافة مستقلة في المغرب… مطلقاً”.
تحظى المملكة المغربية بالثناء على الصعيد الدولي نظراً لانحيازها للإسلام المعتدل وبسبب التحسن الذي طرأ على سجلها على مستوى المساواة بين الجنسين إضافة إلى سياسات أخرى تنتهجها وتُعتبر تقدمية بالنسبة للمنطقة. غير أن الرزوقي، بصفتها صحفية مغربية سابقة، تحدث للجنة حماية الصحفيين عن انهماك “المخزن” – وهو مصطلح يُستخدم للدلالة على النخبة الحاكمة المؤلفة من النظام الملكي والوزارات الحكومية والدوائر الأمنية بالإضافة إلى رجال الأعمال الأثرياء المقربين- في تطبيق إجراءات صارمة بشكل تدريجي لكبت وسائل الإعلام المستقلة في المغرب منذ تسعينيات القرن الماضي. ووجد بحث أجرته لجنة حماية الصحفيين أن السلطات المغربية تستغل منذ زمن بعيد سوق الإعلانات لتشجيع التغطية الممتثلة للتعليمات، فيما تستهدف صحفيين مستقلين بالاعتقال والترهيب. علاوة على ذلك، تستخدم السلطات برمجيات متطورة للمراقبة، بحسب ما توصل إليه بحث أجرته الرزوقي ومؤسسات دولية معنية بالتحقيق في البرمجيات الخبيثة كمنظمتي ‘برايفاسي إنترناشنال’ و ‘سيتيزن لاب’.
في أواخر عام 2016، وثّقت الوكالات الإخبارية مقتل بائع سمك سحقاً في شاحنة لجمع القمامة أثناء محاولته استرجاع بضاعة صادرتها الشرطة منه في مدينة الحسيمة، مما أشعل شرارة احتجاجات اجتماعية واقتصادية عمت أنحاء منطقة الريف شمال البلاد. وبحلول شهر كانون الأول/ ديسمبر 2017، كان ثلاثة صحفيين على الأقل – هم حمدي المهداوي ومحمد الأسريحي وعبد الكبير الحر– قد أُودعوا السجن بسبب تغطيتهم للمظاهرات، حسب تقصيات لجنة حماية الصحفيين.
يسافر الصحفي المستقل علي لمرابط كثيراً من برشلونة في إسبانيا إلى مسقط رأسه مدينة تطوان المغربية. ويكتب لمرابط تعقيبات حول الشؤون المغربية، بما في ذلك احتجاجات منطقة الريف. وقال لمرابط للجنة حماية الصحفيين “في كل مرة، يضعون لي فيروساً، [أو] نوعاً من البرمجيات الخبيثة”، مشيراً إلى السلطات المغربية التي تحاول باعتقاده رصد عمله. وكان قد حُكم على لمرابط بالسجن ثلاث سنوات بتهمة “الإساءة للملك” سنة 2003 ثم صدر عفو عنه سنة 2004، إلا أنه سرعان ما مُنع من ممارسة الصحافة لمدة 10 سنوات عام 2005 بسبب كتابته عن منطقة الصحراء الغربي المتنازع عليها.
ووصف لمرابط الأعراض الغريبة التي كانت تظهر على حاسوبه المحمول السابق حتى عندما لم يكن يستخدمه، مثل فتح ملفات لم يتعرف عليها لمرابط أو تشغيل الكاميرا من تلقاء ذاته. وقد التقطت برامج مكافحة الفيروسات ما لا يقل عن ثلاثة برامج خبيثة على ذلك الحاسوب، حسب لمرابط الذي يقول إنه يتّبع بروتوكولات حماية صارمة موضحاً أن “ما أقوم به هو جعل الأمر صعباً عليهم ولكن ليس مستحيلاً”.
وذكرت مراسلة صحيفة القدس العربي التي تصدر في لندن، سعيدة الكامل التي تعمل من الرباط، للجنة حماية الصحفيين أنها لاحظت في بعض الأحيان وجود صدى لصوتها أثناء تحدثها عبر الهاتف المحمول مع مصادر معينة، مثل والد ناصر زفزافي الناشط الذي حُكم عليه بالسجن 20 سنة بسبب دوره في تزعُّم احتجاجات الريف. وقالت إنها كانت تشعر بسخونة هاتفها عند لمسه مع فقدان بطاريته لشحنتها بسرعة في الوقت ذاته.
وأخبرت سامية الرزوقي لجنة حماية الصحفيين عن سماعها هي الأخرى لصدى صوتها يتردد خلال المكالمات الهاتفية طيلة عملها الصحفي في الرباط، حيث عملت مراسلة لوكالة ‘رويترز’ حتى عام 2017، وقبلها مراسلة حرة لوكالة ‘أسيوشيتد برس’. وقالت إنها سمعت أكثر من مرة ما بدا وكأنه تسجيلاً لإحدى مكالماتها السابقة يتم سماعه في خلفية مكالمة أخرى.
تمتلك الرزوقي، شخصياً، فكرة جيدة جداً عن تقنيات المراقبة المتوفرة للدولة كونها درست الرقابة الحكومية في المغرب. فعندما كانت ضن فريق التحرير لموقع “مامفاكينش” [“لن نتنازل”] للصحفيين المواطنين سنة 2012، تلقت هي وزملاؤها، حسبما ذكرته للجنة حماية الصحفيين، مستندات فارغة بتنسيق برنامج ‘وورد’ مرفقة مع رسالة بريد إلكتروني. وأفادت منظمة ‘برايفاسي إنترناشنال’ بأن ذلك تلك المستندات كانت تحتوي في الواقع على فيروس طورته شركة ‘هاكينغ تيم’ الإيطالية. وقد وصفت المنظمة استخدام هذا الفيروس في شباط/ فبراير 2015 بأنه “استثمار ضخم ليس بمقدور أحد إلا الحكومات تنفيذه لاستهداف مجموعة من الصحفيين المواطنين”. وفي تموز/ يوليو من العام نفسه أدى اختراق للبيانات إلى نشر وثائق على شبكة الإنترنت تشير إلى قيام وكالتين أمنيتين مغربيتين -هما المجلس الأعلى للدفاع الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني – بشراء نظام للتحكم عن بعد تنتجه شركة ‘هاكينغ تيم’ يتيح لمالكه رصد جميع الأنشطة التي تتم على جهاز الشخص المستهدف بالوقت الحقيقي، وفقاً لما ذكرته تقارير إخبارية صدرت لاحقاً. وفي أواخر عام 2018، قالت منظمة ‘سيتيزن لاب’، في جهد منفصل، إنها تمكّنت من تحديد برنامج ‘بيغاسوس’ للتجسس، المطور من قبل مجموعة (NSO) الإسرائيلية، يتواصل مع “مشغل يبدو أنه يركز على المغرب”.
وفي عام 2015، رفعت وزارة الداخلية المغربية دعوى تشويه سمعة ضد رابطة الحقوق الرقمية، وهي منظمة مغربية غير حكومية، بعد أن أُشير إلى اسم المنظمة في تقرير لمنظمة ‘برايفاسي إنترناشنال’ حول الرقابة الحكومية في المغرب، وفقاً ما أوردته تقارير الأنباء.
ولم ترد وزارة الداخلية وإدارة الدفاع الوطني في المغرب على مكالمات لجنة حماية الصحفيين الهاتفية للحصول على تعليق منها. أما المديرية العامة للأمن الوطني، التي تشرف على المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، فقد ردت على مكالمتين من لجنة حماية الصحفيين لكنها وضعتها في وضعية الانتظار ولم ترفع سماعة الهاتف للتحدث معها مطلقاً.
وبعد افتضاح أمر ‘هاكينغ تيم’، بدأ عدد أكبر من الناس يرفض التحدث للصحفيين، حسب الصحفي الاستقصائي عمر راضي المقيم في الدار البيضاء. وقال راضي إن عدد “المبلغين عن التجاوزات يقل شيئاً فشيئاً”. وقد كتب راضي سابقاً عن المراقبة الرقمية في المغرب لموقع ‘لاكومي’ الإخباري الذي لم يعد له وجود اليوم حيث أُغلق بعد حجبه من قبل السلطات المغربية سنة 2013. ويقدم راضي في الوقت الحاضر التدريب على الأمن الرقمي للصحفيين والنشطاء المغاربة.
وذكر العديد من الصحفيين للجنة حماية الصحفيين أنهم نادراً ما يستخدمون تطبيق ‘واتساب’ خشية أن تُستخدم تلك الرسائل الإلكترونية ضدهم. وكان راضي قد غطى أيضاً الاحتجاجات في منطقة الريف، وذكر للجنة حماية الصحفيين -نقلاً عن أقارب سجناء ومحاميهم- أن السلطات أشارت إلى رسائل خاصة عبر تطبيق ‘واتساب’أثناء التحقيق مع الأشخاص الذين سُجنوا خلال الاحتجاجات ومن ضمنهم صحفيون.
وأخبر راضي لجنة حماية الصحفيين أن السلطات وجهت تهديدات لشخص زوده بمعلومات كان قد تحدث معه عبر الهاتف فقط بخصوص تحقيق بشأن ادعاءات بعملية انتزاع أراضٍ كان الملك المغربي أحد أطرافها، مما دفع راضي إلى إيقاف التحقيق. وأضاف راضي أن موقع ‘Le360‘ الإلكتروني المؤيد للحكومة المغربية نشر مقالة بعد فترة وجيزة اشتملت على معلومات مأخوذة من المحادثة الخاصة التي جرت عبر الهاتف، وذلك للتصدي بصورة استباقية لبعض المسائل التي أثارها المصدر وإسباغ مظهر سلبي على الصحفي.
وفي محاولة أخرى من السلطات المغربية لتحييد الإعلام المستقل، فقد أجّلت أو رفضت، إصدار بطاقات إعلامية لصحفيين معينين أو قنوات إعلامية معينة بموجب قانون جديد تم العمل به سنة 2016، حسبما ذكرته تقارير الأنباء. وقال راضي للجنة حماية الصحفيين إنه تخلى عن محاولة الحصول على بطاقة إعلامية بعد رفض طلبه سنة 2013. ولا يزال راضي يكتب لمطبوعات أجنبية لكنه لم ينجح في بيع مقالاته لمنافذ إعلامية محلية منذ ثلاث سنوات، حسبما ذكره للجنة حماية الصحفيين. من جانبها قالت الرزوقي للجنة حماية الصحفيين إنها انتظرت 11 شهراً من أجل الحصول على البطاقة الإعلامية عندما كانت تعمل مع وكالة ‘أسيوشيتد برس’، حيث لم تحصل عليها إلا بعد أن أثارت المسألة مع رئيس الوزراء المغربي آنذاك عبد الإله بن كيران عقب لقاء معه سنة 2016.
هذا ولم تجب وزارة الاتصال المغربية على الرسائل التي بعثتها لجنة حماية الصحفيين طلباً للتعليق.
وقالت الرزوقي للجنة حماية الصحفيين لقد “انتقل كثير من الصحفيين المستقلين الذين أعرفهم إلى مسارات مهنية أخرى أو غادروا البلاد”. وأضافت أن قلة قليلة فقط “تمسكت ببصيص الأمل في سبيل بناء مهنة الصحافة”.
دانية الحجاجي، زمالة باتي بيرتش لأبحاث الشرق الأوسط في لجنة حماية الصحفيين، تبحث حجاجي في الرقابة التكنولوجية في شمال أفريقيا، وعملت قبل انضمامها للجنة حماية الصحفيين متدربة في وكالة ‘رويترز’ ووكالة الصحافة الفرنسية في واشنطن العاصمة. وُلدت حجاجي ونشأت في ليبيا وهي تتحدث اللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية بطلاقة.