ما كانت هبة الشيباني تخطط لأن تصبح صحفية، بل كانت تتوقع أن تصبح أكاديمية مثل كثيرين من أفراد عائلتها الليبية قبل ثورة شباط/ فبراير من عام 2011 التي أدت إلى الإطاحة بمعمر القذافي. ولكن العنف لم يهدأ بعد إسقاط القذافي، وشهدت الشيباني أحداثاً شعرت أن من واجبها تسجيلها وإطلاع الآخرين عليها. لم تكن قد تلقت أي تدريب كصحفية ولكن كان لديها نزوع إلى فضح “الأعمال الخاطئة” حسب تعبيرها، وأحست بحاجة فطرية إلى وجوب تسليط الضوء على تلك الأعمال.
بدأت الشيباني بتوثيق العنف في الشوارع باستخدام هاتفها المحمول وسرعان ما وجدت نفسها تتبادل مع الإعلام المحلي تسجيلاتها المصورة. ثم أدى ذلك إلى استعانة مؤسسات إعلامية أخرى بتقاريرها، فيما تمكنت الشيباني في غضون سنتين من شق طريقها صعوداً من خلال العمل في مجال الإنتاج في التلفزيون الليبي والعمل مع وكالة ‘رويترز’ في ليبيا، وهناك ارتقت هبة من مذيعة إلى مديرة.
وقد حتّم هذا الصعود على الشيباني خوض غمار المخاطرة في بيئة إعلامية كانت محاصرة بالقيود لعقود خلت، وخاصة بالنسبة للنساء. وقالت الشيباني في حديث لها مؤخراً من منزلها في دولة مالطا المجاورة لليبيا حيث تعمل مذيعة لقناة ليبيا “عندما قدمت برنامجاً عن قضايا المرأة، ناقشت مسائل لم يؤتَ على ذكرها أبداً داخل الأسرة الليبية، كالاغتصاب”. وأضافت “ما كنت لأقدم برنامج عن التدبير المنزلي في ظل الظروف التي تمر بها البلاد”.
لكن سرعان ما بدأت القصة تنقلب ضد الشيباني.
فبعض الشخصيات السياسية الليبية لم تتقبل أسلوبها “المباشر” برحابة صدر، حسب قولها. وفي عام 2014، وجدت نفسها مجبرة على الهروب بعد أن أرسلت إليها إحدى تلك الشخصيات رسالة تهديد عبر صحفي زميل لها في مصراتة بمغادرة البلاد أو تحمُّل النتائج. وامتنعت الشيباني عن ذكر اسم هذا المسؤول لأسباب أمنية، حسب قولها، لكنها قامت بما طُلب منها وبناءً على توجيهات من ‘رويترز’. تغطي هبة الشيباني أخبار ليبيا اليوم من خارج البلاد كواحدة من صحفيات كثيرات غادرن البلاد بسبب استمرار حالة عدم الاستقرار والنزاع الثقافي عميق الجذور الذي أهداهن ظهورا لافتاً ولكن محفوفاً بالمخاطر.
وقالت الشيباني إن “الجميع نصحوني بالمغادرة بمن فيهم المسؤول المشرف عليّ. وفي النهاية، جاء موظفو الأمن في رويترز ذات يوم في العام الماضي وقالوا إنه يجب عليّ أن أخلي المكان أنا وزوجي وأطفالي”. وهكذا جاء خروجها مفاجئاً بعد ثلاث سنوات حافلة بتغطية الاغتيالات والتفجيرات وأزمات المهاجرين وتفكيك ليبيا إلى “عدة ليبيات”.
انتبهت الصحفيات انتباهاً تاماً إلى أن ظهورهن اللافت يؤدي إلى سهولة ملاحظتهن، وذلك من واقع أعوام أربعة من القتال بين الفصائل المتنافسة من أجل السيطرة على المشهد السياسي الليبي بعد الثورة. تعدُّ التغطية الإعلامية في بلد غير مستقر تحدياً بالنسبة لأي شخص -وخصوصاً النساء- بسبب الرؤى الثقافية ذات الجذور العميقة حول أدوار الجنسين ومحاولات الفصائل المتصارعة إجبار الإعلام -لاسيما الإعلام المحلي- على الانحياز إلى جانب معين.
على الرغم من تخفيف القيود التي فُرضت على الإعلام في عهد القذافي وانتشار المطبوعات الورقية والقنوات التلفزيونية منذ اندلاع الثورة، إلا أن الصحفيات اللواتي قابلناهن لهذا الموضوع -وكثير منهن طلبن عدم ذكر أسمائهن خشية العواقب- لم تتوافق آرائهن حول ما إذا كانت الصحافة في ليبيا قد استفادت من رحيل القذافي أو إن كن قد حصلن على فرص أكبر أو معاملة مساوية للرجال كمهنيات اليوم. كانت حكومة القذافي قد عمدت إلى تقييد الإعلام باسم الاستقرار والنظام، ولكن بعد الإطاحة به تمت خصخصة الإعلام وفُتح الباب أمام تنوع أكبر في الآراء. ولكن من مساوئ مثل هذا التنوع أنه قد يعمل على إذكاء حالة الفوضى، في حين يتعرض الصحفيون بشكل متكرر للتلاعب أو يتم استهدافهم على يد الفصائل المتصارعة -وهو أمر ازدادت خطورته من جراء انعدام الأمن. أما تصنيف أدوار الجنسين فهو بمثابة صبِّ الزيت على نار المخاطر التي تتهدد المرأة في مضمار العمل الصحفي.
وفي صيف عام 2014، غادرت أكثرية المنظمات الإنسانية ووكالات الأمم المتحدة والمكاتب التابعة لوسائل الإعلام الأجنبية ليبيا إذ أدت انتخابات يونيو/ حزيران من العام نفسه والتي شهدت تنافساً كبيراً إلى تجدد الاشتباكات بين الميليشيات المتصارعة. ولم يبق في البلد سوى قلة من المراسلين الأجانب من الجنسين.
لقد أدى انخفاض التغطية الإعلامية الميدانية إلى خلق فراغ إعلامي، استغلته بعض الفصائل الساعية إلى احتواء التغطية المتبقية. وفي مقالة لفاضل علي رضا كتبها للجنة حماية الصحفيين في تقرير ‘الاعتداءات على الصحافة’ للعام 2015، أشار إلى أن الحقائق في ليبيا ما بعد الثورة باتت “مرتهنة سياسياً” نتيجة لتضارب روايات الفصائل المتصارعة. وتابع علي رضا قائلاً: “لقد أسهم الاستقطاب الشديد للمشهد الإعلامي إلى جانب الدعوات إلى العنف عبر وسائل الإعلام واستقواء الميليشيات على الصحفيين في إضعاف الثقة في بعض ممن تبقى من الصحفيين الحقيقيين الذين يحاولون نقل الحقائق”.
وفي أبريل/ نيسان من عام 2015، ذكرت منظمة مراسلون بلا حدود أن من بين آخر الصحفيات اللواتي تركن ليبيا، سيرين العماري، التي عملت مراسلة لقناة ‘فرانس 24’ في طرابلس إلى حين مغادرتها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 وذلك بسبب تلقيها تهديدات واستجواب سلطات طرابلس المتكرر لها بشأن التقارير التي تعدها.
بعض من التحديات التي يواجهها الصحفيون في المشهد السياسي الليبي شديد الانقسام مألوف بالنسبة لكثير من مناطق النزاع حيث تعمل الجغرافيا والتحالفات في أغلب الأحيان على التحكم في إمكانية الاطلاع عل القصص والتأثير على سلامة الصحفيين الشخصية. ولكن يبدو أن جميع الأطراف في ليبيا تدرك أهمية السيطرة على الخبر في الإعلام ومن ثم تميل إلى جعل المراسلين والمصورين جزءاً لا يتجزأ من الصراع من خلال صياغة الخبر والحث على اتخاذ إجراء في بعض الحالات. تمثل الصحفيات في الغالب رموزاً فعالة التأثير وبالتالي فإن تجربتهن تمر حتماً عبر طبقة إضافية من الصعوبة.
حتى في ليبيا ما قبل الثورة، كان عمل الأنثى كمراسلة صحفية بمثابة “انتحار اجتماعي”، على حد تعبير منال بوسيفي التي بدأت بالعمل مراسلة لدى إحدى القنوات الإخبارية التابعة للدولة بدايات العقد الأول من القرن الحالي، أي عندما كانت المؤسسات الإعلامية في قبضة القذافي. وتؤكد البوسيفي أن مثل هذه المواقف تجاه النساء الصحفيات وخاصة من تختار منهن تغطية الشؤون السياسية والأخبار الصعبة، قد شاعت في صفوف الفصائل المحافظة وحتى في صفوف الكثير من المواطنين الليبيين العاديين.
كثيراً ما يختزل الإعلام الغربي حالة عدم الاستقرار السياسي والعنف في ليبيا – كما يفعل في كثير من بلدان ما بعد الربيع العربي- في كونه صراعاً بين جماعات علمانية وأخرى إسلامية. وبالرغم من أن الواقع أشد تعقيداً من ذلك بكثير، لا بد وأن يعلَق الإعلام في كثير من الحالات في تقاطع النيران. ونتيجة لذلك، شعرت كثير من الصحفيات أنهن مجبرات على تغطية أخبار الاضطراب السياسي في ليبيا من بلدان مجاورة كمصر وتونس أو -كما في حالة هبة الشيباني- من مالطا، وهي بلدان تُعتبر ملاذاً آمناً نسبياً في المنطقة، رغم أنه يمكنك إدراج عدد لا بأس به من علامات الشك والتوضيح هنا. وقال بعض ممن غادروا ليبيا هرباً إنهم توقفوا عن تغطية أخبارها بسبب الترهيب أو انعدام إمكانية الوصول المباشر إليها.
وقد توارت الشيباني، وهي من عائلة ليبية بارزة ومتزوجة من رجل ينتمي لقبيلة على نفس القدر من النفوذ، عن الأنظار في بداية ثورة عام 2011 لخشيتها من التعرض للمضايقة أو الخطف. وقالت إن كثيراً من الليبيين خلال تلك الفترة كانوا يخافون من حتى مشاهدة الأخبار على التلفزيون خشية التعرض للانتقام، وأضافت بأن “الناس كانوا يتجمهرون حول أجهزة التلفزيون ويشاهدون الأخبار بعد أن يخفضوا صوت الجهاز إلى أدنى حد”.
واليوم، نادراً ما تتفق الميليشيات المتصارعة والكيانات الحكومية المتنافسة على أي شيء عدا أهمية السيطرة على وسائل الإعلام، مما يرفع تماماً من مستوى الأخطار المحدقة بالصحفيين -أياً كان جنسهم أو انتماؤهم- بل وبوجه خاص بالنساء اللواتي يبرزن أكثر من غيرهن في هذا الميدان. وفي أغسطس/ آب من عام 2013، ذكرت صحيفة ‘غارديان’ أن صحفية استُهدفت من قبل مسلحين في بنغازي ثاني أكبر المدن الليبية؛ حيث أُطلقت النار باتجاه خديجة العمامي، المذيعة بتلفزيون الأحرار، من قبل مسلحين من سيارة مرت بقرب سيارتها. ومن ثم تلقت رسالة تحذير نصية تطلب منها “التوقف عن العمل في الصحافة” وإلا ستُقتل. وفي أبريل/ نيسان من عام 2015، أُردي الصحفي التلفزيوني مفتاح القطراني بالرصاص في مكتبه في شركة الأنوار وهي شركة إنتاج تلفزيوني خاصة.
في عام 2015، قُدّر عدد الجماعات المسلحة التي تنشط في ليبيا بنحو 1,700 بحسب خارطة تتبع الصراعات العالمية بمجلس العلاقات الخارجية، وهو عبارة عن مجموعة خبراء مستقلة. وقالت صحفية أجنبية تغطي أخبار ليبيا منذ انطلاق الثورة فيها، طلبت عدم ذكر اسمها لدواعي أمنية، إن انتشار الجماعات المسلحة أدى إلى “معركة ضارية حول رواية الخبر” وأن تنوع الآراء في ليبيا أسهم في زيادة الاستقطاب حول تلك الروايات المتنافسة. وتقول صحفيات من ليبيا إنهن يتعرضن، إضافة إلى التهديد المادي، إلى النبذ الاجتماعي والتحرش الجنسي والهجوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي وأنهن يتعرضن بشكل عام للتميز.
وتقول بعض الصحفيات إنه رغم التساهل معهن على مضض أبان حكم القذافي، إلا أنه كان لزاماً على كافة الصحفيين التقييد تماماً بالخط الحكومي. أما اليوم، فإنهن يمتلكن حرية أكبر في التغطية الإعلامية، لكنها حرية محفوفة بالمخاطر. تقتصر المرونة في الرؤى المتعلقة بأدوار الجنسين عادة على مدن كطرابلس ومصراتة، ومع ذلك يوجد حتى في هذه المدن تيارات ظلامية تحت السطح. فغالبية البلاد يهيمن عليها مجتمع أبوي يتسم بفصل صارم بين الجنسين.
أوضحت صحفيات أجريت معهن مقابلات في إطار هذا المقال أن معاملة الصحفيات والمصورات الفوتوغرافيات تختلف بحسب ما إذا كنّ ليبيات أو غربيات أو مسلمات أو غير مسلمات. وقالت صحفية غربية امتنعت عن ذكر اسمها إن المراسلين الغربيين يعملون وفقاً لقوانين غير معلنة مختلفة، وأنه يسمح لهم بتطبيق مدونة لقواعد السلوك من شأنها أن تخالف بطبيعة الحال الأعراف الاجتماعية. وقالت إنه بمقدورها تخطي القيود المتعلقة بالنوع الاجتماعي، غير أنها لاحظت أثناء مساعدتها في تدريب الصحفيات المحليات قبل الثورة أن “مستويات الثقة العامة عند الصحفيات الشابات” كانت متدنية لأنهن كن يفتقرن إلى القبول التام ويشعرن بالضغط السلبي من قبل عائلاتهن ومجتمعاتهن المحلية. وفي معظم الحالات، لم تكن الصحفيات يتلقين نفس القدر من التدريب كالرجال وكن أكثر تحفظاً في الكلام عند إجرائهن لمقابلات مع شخصيات عامة، حسب قولها.
وأضافت الصحفية الغربية بأنه “كان مفهوماً ضمناً في أغلب الأحيان أن مقدار الاحترام لعمل الصحفية [الليبية] كان أقل نوعا ما”. وقالت الصحفية التي عُرفت بكونها سيدة غربية غير محجبة: “في إحدى زياراتي الأخيرة ارتديت الحجاب لأول مرة، ليس لأني شعرت بضرورة التقيد بالأعراف الاجتماعية الليبية، بل لأننا علمنا حينذاك بوجود خلايا لتنظيم الدولة الإسلامية تعمل في المنطقة وأن الهجمات بسيارات مفخخة باتت مألوفةً”.
وقالت صحفية غربية أخرى، وهي الصحفية المستقلة ياسمين ريان، إنه على الرغم من كونها كانت تتلقى معاملة أكثر مرونة من المراسلات المحليات إلا أن التحيز الجنسي والقلق بشأن ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا تسبب في إحساسها المتزايد بعدم الارتياح. وقالت ريان إنها واعية تماماً لاستراتيجية تنظيم الدولة والجماعات المرتبطة بها في توظيف الاتجار بالجنس كوسيلة “لشرعنة التعامل مع النساء كسلعة”، والذي فاقم من انكماش الحضور الصحفي النسائي على امتداد الساحل الليبي الشرقي والأوسط. ولا تزال ريان تغطي الأخبار من داخل ليبيا بين الفينة والأخرى عندما يسمح لها الوضع الأمني بالقيام بذلك ضمن قدر من الأمان النسبي، حيث يمكنها الحصول على تأشيرة بصفة صحفية.
كذلك توارت رنا جواد، المراسلة الرئيسية لمحطة ‘بي بي سي’ منذ أمد طويل في ليبيا، عن الأنظار لفترة مؤقتة في أعقاب الثورة عام 2011، لكنها استأنفت فيما بعد إعداد التقارير وألفت كتاباً بعنوان ‘شاهدة من طرابلس’ وهو عبارة عن رواية مباشرة لتجاربها. واليوم تغطي جواد الأخبار الليبية من تونس. وقالت إن قرارها بالخروج من ليبيا كان مستنداً إلى مخاوف بشأن سلامتها وسلامة أسرتها لاسيما وأنها صحفية بارزة تعمل مع محطة ‘بي بي سي’.
وقالت الشيباني التي عملت مع قنوات إعلامية صاحبة ولاء سياسي معلن إنها شهدت “عداوات شديدة” بين أشخاص تابعين لوسائل إعلام مؤيدة للإسلاميين وأخرى معادية للإسلاميين تحت الضغط غير العادي الذي كان يُمارس عليهم للالتزام بانتماءاتهم. كما كانت الشيباني شاهدة على إجبار صحفيات ومذيعات على “الانحياز لجانب دون آخر كي يتمكنَّ من الاحتفاظ بعملهن”. وأوضحت الشيباني أن الضغط الممارس بهدف التقيد بالاتفاقيات يكون، في الغالب، قائماً ضمناً على النوع الاجتماعي وأنه من بين القنوات التلفزيونية الأربعين والمطبوعات التي تخطى عددها المائة مطبوعة والتي أُطلقت في ليبيا منذ عام 2011، “لا أعرف سوى امرأة واحدة أخرى تشغل منصب يُصنع فيه القرار”، حسب قولها وأردفت ضاحكة “معظم الرجال الليبيين غير معتادين على تلقي الأوامر من نساء”.
مثل هذه الرؤى المتعلقة بالنوع الاجتماعي لا تقتصر على ليبيا وحدها، لكنها تميل إلى التضخم بسبب الصراع الثقافي والسياسي المستمر. ففي كثير من الحالات، لاحقَ الصراع صحفيات إلى منافيهن الذاتية التي لجأن إليها. انتقلت الشيباني بادئ الأمر إلى تونس على أمل أن تواصل تغطيتها من هناك كمكان آمن نسبياً ومن ثم العودة إلى ليبيا عندما يسمح الوضع الأمني بذلك. ولكنها حتى وهي في تونس كانت تؤرقها مسألة إمكانية استهدافها من قبل عناصر تابعين لفصيل ليبي ما، خاصة بعد أن سمعت أن أحد أفراد المليشيات كان يفتش عن معلومات الاتصال بها. وقد دفعتها تلك الحادثة إلى الانتقال إلى مالطا.
ورغم أن الشيباني تحدثت عن تلقيها تهديدات “مقنّعة” قالت أخريات، من بينهن منال بوسيفي، إنهن تعرضن للتهديد المباشر. وقالت البوسيفي إنها هربت من منزلها في ليبيا بعد تلقيها تهديدات بالقتل بسبب “تقاريرها الاستفزازية” التي كانت تتحدث عن ضرورة إعادة تفسير الحديث النبوي، وهو أحد مصادر التشريع الإسلامي.
درست منال بوسيفي الصحافة في ليبيا أبان حكم القذافي ومن ثم بدأت العمل كصحفية استقصائية في مطبوعة مملوكة للدولة عام 2004. وقالت إنها بعد سنتين من ذلك “عملت على تقرير استقصائي حول البغاء مع زميلة لها حيث اكتشفنا أنه كان منتشراً على نطاق واسع فضلاً عن تضمنه لانتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان. لكن القصة انقلبت ضدنا لكوننا نساء ونقوم بمتابعة هذا الموضوع”.
وبعد سقوط القذافي -تقول البوسيفي- “كتبتُ مقالة عام 2012 حول قوانين الميراث وكنت أريد أن أبدأ نقاشاً حول حقوق النساء في مرحلة الانتقال السياسي وكانت تلك أكثر الكتابات إثارة للجدل. فسرعان ما أدركت أن مناقشة قانون الميراث قد تقود إلى قطع رقبتي. وأنا أم لخمسة، أربعة منهم أحياء فهربت وإياهم”. ومع ذلك لاحقت التهديدات بوسيفي إلى تونس، حسب قولها. ففي سبتمبر/ أيلول من عام 2015، قالت بوسيفي إن رجلاً ليبياً تهجم عليها في الشارع ورشق القهوة في وجهها ثم “قال إنها لن تكون قهوة المرة القادمة”.
تشكل الصحفيات الليبيات اللواتي انتقلن إلى تونس جزءاً من عملية خروج جماعي ليبي أكبر حجماً شجعها القرب الجغرافي لتونس وعدم وجود قيود على التأشيرات. لقد فر نحو مليون ليبي إلى تونس وحدها عام 2011، بحسب وزارة الإعلام التونسية. غير أن تونس ليست خالية من المشاكل هي الأخرى، كارتفاع معدلات البطالة والانقسام السياسي والتاريخ العاصف بالأحداث مع ليبيا. وتقول بوسيفي إنها تخطط الآن للانتقال إلى مصر لإطلاق مطبوعة حقوقية تركز على النساء في ليبيا. وهي تدير حالياً مجموعة من النساء الموجودات داخل البلاد يقمن بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في السجون الليبية وترجمة تقارير كتلك التي تصدرها منظمة هيومان رايتس ووتش إلى اللغة العربية كي يطلع عليها القراء الليبيون. وقالت إنهن يستعملن أسماء مستعارة لإخفاء هويتهن الحقيقية.
بالمقابل، قررت بعض الصحفيات الليبيات البقاء في بلدهن الأصلي رغم المخاطر التي تحدق بهن. ومن بين هؤلاء اللواتي تصرفن ضد الاتجاه الفطري للإنسان، صحفية تكتب تحت الاسم المستعار ‘مريم أحمد’، حيث دأبت على إرسال تقاريرها إلى صحيفة ‘ليبيا هيرالد’ وعملت من داخل بيتها في بنغازي على أساس مستقل مع وسائل إعلام أجنبية لغاية أكتوبر/ تشرين الأول 2015 حيث توقفت لفترة مؤقتة عن تغطية أخبار “القتل اليومي والتدمير” لأن ذلك أصبح سبباً للضيق الشديد، حسب قولها.
وتقول مريم، وهي في الثانية والعشرين من عمرها، إن التضاد المحتمل الناشئ عن كونها صحفية في مجتمع محلي محافظ بشدة لم ينل من عزيمتها، وإنها نجحت في فتح قنوات اتصال مع شخصيات بارزة من بينها شخصيات من ميليشيات مختلفة. وقالت إنها تدرك إن ذلك يجعل منها شيئاً خارجاً عن المألوف. وقالت مريم إن “القتال وجهاً لوجه حل محل الاغتيالات التي وقعت عام 2013 وإن العنف لا يتوقف”. وأضافت بأن “النساء لم يعدن يقدن السيارات إلا ما ندر، ناهيك عن المشي في الشوارع”. وبما أنها تكاد تكون الأنثى الوحيدة الحاضرة أثناء الأحداث المتوترة، باتت مريم أحمد معروفة تماماً، مما يجعل ظهورها أكثر بروزاً وبالتالي أكثر عرضة للاعتداءات، كما تقر هي نفسها. إلا أن أسرتها تساندها في عملها، بما في ذلك والدها الذي يرسل لها الأخبار العاجلة ويساعدها في العثور على مصادر مفيدة. وتقول مريم إن “‘بابا’ قال لي إنه حين تحين ساعة الموت، فإنه واقع لا محالة، لذا يجب علي ألا أعيش حياتي خائفة”.
شعرت مريم، مثل هبة الشيباني، برغبة عارمة في توثيق العنف الدائر من حولها. وتقول “عندما كتبت أول قصة لي عام 2012، في ذكرى قصف حلف الناتو، عرفت أني لن أستطيع التوقف عن الكتابة. ولكن في هذه الفترة، ونظراً لعدم وجود قصص إيجابية، فإني أحس بالإحباط”.
وعندما سُئلت عما إذا كانت قد تعرضت للتهديد ذات يوم، قالت مريم إن أعظم خطر واجهتنه كان عندما علقت فعلياً وسط تقاطع نيران المتقاتلين أو عندما جادلت أحد الزعماء المحليين. وقالت إن سلامتها الشخصية وسلامة أفراد عائلتها تتوقف تماماً على الحفاظ على السرية وطرح الأسئلة الصحيحة ومعرفة متى يجب الإحجام عن طرحها.
ومن الصحفيات اللواتي بقين هناك فترة أطول من معظم الصحفيات، التونسية هدى مزيودة، التي قالت إنها عوملت على الأغلب باحترام بل وقُدمت لها الحماية عندما كانت في ليبيا. وعزت هدى ذلك إلى كونها محجبة وإلى كونها “قريبة ثقافياً، رغم أنها ليست ليبية”.
ولكن الخطر المتزايد -تضيف هدى- دفعها إلى تغطية موضوعات “أقل إثارة للأعصاب”، فتجنبت الشوارع التي اكتوت بنار المعارك وبدأت بتغطية أخبار الهجرة غير أن هذه الأخيرة كانت تتطلب السفر إلى مواقع نائية وقد تنطوي على خطورة. وتتذكر هدى أنها في واحدة من تلك الرحلات كان يرافقها أحد رجال القبائل المحليين لعبور منطقة الصحراء الأفريقية حيث أدار هذا مشغل الأقراص المدمجة في سيارته على أغاني حب مصرية. وقالت إنها عندما استشعرت علامات الاهتمام الجنسي التي بدأت تظهر عليه “تساءلت في نفسي، ما الذي تفعلينه بربك هنا دون أية حماية على الإطلاق”. وتعمل هدى حالياً في بلدها تونس على كتاب يؤرخ لتجربتها في نقل التقارير الإعلامية في ليبيا لصالح معهد بروكنغز.
تقول هدى إن هذا الشعور بالانكشاف للخطر والقائم على النوع الاجتماعي، الذي خبرته مرة ثانية أثناء دخول المعابر الحدودية بين تونس وليبيا، دفعها إلى إعادة تقييم التغطية الإعلامية من أرض الواقع. فعند عبورها الحدود ذات مرة، سألها عنصر تابع لميليشيا ليبية عما تقوم به في ليبيا. فكذبت عليه وقالت إنها أكاديمية تدرب الطالبات خوفاً من ردة فعله إن عرف أنها صحفية. وتروي هدى كيف أن دقات قلبها أخذت تتسارع عندما بدأ يضّمن كلامه تلميحات جنسية واقترح أنه ينبغي عليها أن تقضي بعض الوقت “في تدريبه على بعض الأعمال” على حد تعبيره. وقالت “عملياً، كنت في مكان معزول تماماً عن العالم”. وأضافت “بصفتي مواطنة تونسية ما كنت لأعول على حكومتي في حمايتي”.
وعلى الرغم من ظهورهن بشكل ملفت في مجال يهيمن عليه الذكور، تابعت الكثير من الصحفيات الليبيات وغير الليبيات عملهن في تغطية أنباء هذا البلد، سواء من بعيد مع القيام بزيارات دورية إلى ليبيا، أو من داخل البلد نفسه. وخلال حديثها، ذكرت بوسيفي أن ابنة لها، في سن الجامعة، مصممة على العودة إلى ليبيا كصحفية وتأمل في إعداد التقارير بالعربية والإنجليزية. وتقول إن “الخيار ليس لها في الوقت الحاضر. ولكن في المستقبل، فنعم، عندما نعود” وأردفت “إن شاء الله”.
بريتي نالو هي صحفية مستقلة تقيم في تونس