المتطرفون يمارسون الرقابة
على القصة الصحفية الدينية
بقلم: جان بول مارثوز
قبل عشرين سنة، في 22 أيار/مايو 1993 تحديداً، خرج الصحفي الجزائر طاهر جاووت مؤسس مجلة ‘ربتشرز’ الأسبوعية المستقلة، من منزله وسار نحو سيارته وجلس خلف المقود. وبعد بضعة ثوانٍ أطلقت عليه رصاصتان عبر النافذة. كان جاووت كاتباً موهوباً ومتمرداً وقد دان بقوة الجماعات الإسلامية التي كانت تقاتل نظام العسكر الجزائري. وقد دشن مقتله موجة قتل عارمة نُسب أغلبها إلى الجماعات الإسلامية المسلحة أودت في نهاية المطاف بحياة 60 صحفياً جزائرياً.
وفي العقدين اللذين تليا ذلك، استهدف العنف مئات المراسلين المحليين والدوليين باسم الدين. كان للهجمات أثر مثبط على تغطية شؤون الدين والكثير من القضايا والنزاعات التي أحاطت به. وأصبح الكثير من رؤساء التحرير يفكرون مرتين قبل إرسال المراسلين إلى مناطق يمكن للمتطرفين الدينيين فيها اختطافهم وقتلهم. وفي البلدان التي تمزقها الطائفية الدينية، لا يعمد بعض الصحفيين إلى التقصي بعمق كبير، وحتى في بلدان أكثر سلمية تكون الصحف الرئيسية حذرة بشأن إمكانية وقوع عنف أو إساءة أو انتهاك لقوانين التجديف وعدم احترام المقدسات. ويختار كتاب الأعمدة كلماتهم بكل حذر أو يتحاشون الكتابة في المواضيع المثيرة للمشاعر. أما رسامو الكاريكاتير فقد خففوا من جرأتهم.
وذكر جون أوين، رئيس تحرير نشرات الأخبار السابق في محطة ‘سي بي سي’ وأستاذ الصحافة الدولية في جامعة مدينة لندن، للجنة حماية الصحفيين أنك “تخاطر بحياتك على الخطوط الأمامية أو يتم إخراجك من القصة بسبب الخطوط الحمراء التي تتمثل في الخوف من إشعال مشاعر إحدى الأقليات أو خلق رد فعل معاد لك ولمؤسستك الإعلامية”.
إلا أنه يتعين علينا أن ننشر القصة الإخبارية المتعلقة بالدين لأن الدين أضحى يهيمن على الأخبار المحلية والعالمية. إن درجة تغطية أخبار الدين تحدد قدرة المجتمعات على التطرق بحرية وشمولية لقضايا تعدُّ مركزية في معرض ترسيخ جذور الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. وقد باتت التغطية أكثر أهمية فعلاً لأن الدين أصبح قضية عالمية. كما أن العولمة تتطلب وجود صحافة قوية غير خاضعة للكبت، إذا ما أُريد للعولمة أن تكون نقطة ملتقى الحرية.
وذكر آيدان وايت للجنة حماية الصحفيين، وهو مدير شبكة الصحافة الأخلاقية في الشبكة الدولية للمحررين، “ينبغي أن يكون الصحفيون أحراراً في تغطيتهم للدين دون تخويف. ويجب ألا يحدد قراراتهم الخوف من العنف أو المقاضاة بل مهنيتهم وحكمهم الأخلاقي”.
وكتب مارك جيرغينزماير في كتابه المهم “Terror in the Mind of God” [الإرهاب في عقل الرب] يقول “لقد شكل كل تقليد من التقاليد الدينية الرئيسية ذريعة لمرتكبي العنف”. وقد عمل النزاع في أولستر (في أيرلندا الشمالية) في الثمانينات من القرن الماضي على تحريض الكاثوليك ضد البروتستانت، وفي عقد التسعينيات احتدمت حروب البلقان بين الكروات الكاثوليكيين والصرب الأرثوذكس والبوسنيين المسلمين. وعلى الرغم من أن أدياناً أخرى ضالعة هي أيضاً في ممارسة العنف ضد الصحفيين إلا أن تركيز الأخبار الدولية ينصبُّ مؤخراً على التطرف الإسلامي في الغالب – وهو تيار سياسي حالي يستهدف الصحفيين غير المسلمين إلى جانب المسلمين المعتدلين ودعاة الحداثة والإصلاحيين.
عندما نشرت مجلة ‘تايم’ عام 1996 موضوع غلاف تحت عنوان “هل مات الرب؟” توقع الكثير من النقاد بروز نزعة متصلبة نحو مزيد من العلمنة على إثر ظهور الحداثة والعولمة، لكن الذي حصل هو عكس ذلك؛ “فنحن اليوم نعيش في عالم يعدُّ الدين فيه قوة عالمية صلبة، وهو يزداد حيوية ونشاطاً وأصبح أكثر حزماً كما أنه عمل على تسييس العالم أجمع”، كما قال تيموثي صمويل شاه ومونيكا دوفي توفت، في التقرير ” Blind Spot: When Journalists Don’t Get Religion” [النقطة المعتمة: عندما لا يفهم الصحفيون الدين]. وبحسب المؤشر العالمي للتدين والإلحاد الصادر عن مركز بيو للأبحاث عام 2012، فإن 59 بالمائة من العالم يقولون عن أنفسهم إنهم متدينون. وعلى الرغم من أن أوروبا الغربية تعدّ عموماً استثناءً ورغم أن الإلحاد في الولايات المتحدة يشهد ارتفاعاً طفيفاً، إلا أن مناطق أخرى تنمو سكانياً تشهد زيادة متواصلة من التدين وخاصة من خلال صعود الإسلام ومذهبي البنتيكوستية والبروتستانتية الإنجيلية المسيحيين.
هذه النزعة تعززها العولمة التي تمنح تأثيراً أعظم للجاليات الدينية في الشتات، حسب سكوت توماس وهو خبير بجامعة باث البريطانية. لقد أضاف صعود الإعلام العالمي ونشوء وسائل التواصل الاجتماعي العابرة للحدود إلى الخلافات الدينية مزيجاً خاصاً قابلاً للتفجر. وكما اتضح في الخلاف على الرسوم الكرتونية الدانمركية التي صورت النبي محمد في الفترة 2005-2006 وفيلم “براءة المسلمين” عام 2012 الذي أثار احتجاجات غاضبة في مصر وبلدان مسلمة أخرى، نجد أن قصة دينية محلية يمكن لها -على نحو شبه فوري- أن تنتشر انتشاراً واسعاً وتصبح عالمية.
لا يبرز التطرف الديني عادة كفئة مستقلة بذاتها في إحصائيات الجماعات المعنية بحرية الصحافة، بل تغطي على وضوحه أسباب أخرى للعنف (السياسة والفساد والإرهاب) أو فئات أخرى من الفاعلين (فاعلين غير رسميين، جماعات سياسية). غالباً ما يكون فصل التطرف الديني عن قضايا كالقومية والإثنية أو السياسة أمراً صعباً، في الحقيقة، في كثير من النزاعات.
لكن يبدو أن التطرف الديني يقف كفئة منفردة لوحدها ضمن فئة كمصدر من مصادر العنف، فغالبية الهجمات الناجمة عنه تستهدف صحفيين محليين وليس أجانب، كما هو حال جميع الأنواع الأخرى للاعتداءات على الصحافة.
من بين الهجمات التي وقعت عام 2012 حالة قتل تمت في آذار/ مارس في إقليم بونتلاند شبه المستقل في الصومال حيث أعلنت حركة الشباب مسؤوليتها عن قتل علي أحمد عبدي وهو صحافي في إذاعة جالكعيو بإطلاق النار عليه. وفي نيسان/ أبريل، أطلقت جماعة سلفية تتخذ من فرانكفورت مقرها لها تسجيلاً مصوراً تهدد فيه مباشرة الصحفي الألماني الذي انتقد حملتها لتوزيع نسخ مجانية من القرآن على كل أسرة في ألمانيا. وفي أيار/مايو، تعرضت الصحفية الكندية والمسلمة الإصلاحية، إرشاد مانجي، لجروح طفيفة عندما هاجمتها مجموعة من الناس أثناء حفل إطلاق كتاب لها في يوغياكرتا بإندونيسيا.
وبالمثل، تعرضت الصحفية البوسنية ستيفيكا غاليتش للضرب على يد مجموعة من الرجال والنساء في تموز/ يوليو بعد يومين من عرض فيلمها الوثائقي “نديو أوف ليوبوسكي” الذي كرسته لذكرى زوجها المتوفى، نديليكو نديو غاليتش، الكرواتي الذي ساعد المواطنين المسلمين على تجنب التطهير العرقي. وفي آب/أغسطس، اقتحم مسلحون ينتمون لحركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، وهي جماعة سلفية مسلحة ترتبط بتنظيم القاعدة، استوديوهات محطة إذاعة أدر خويما في بلدة غاو شمال شرق مالي وهاجموا الصحفي مالك أليو مايغا، وهو معاون إعلامي محلي بمحطة صوت أميركا، وضربوه حتى فقد وعيه. وفي تونس تعرض مراسلون محليون وأجانب في أيلول/ سبتمبر لهجوم قام به سلفيون بينما كان الصحفيون يغطون الاحتجاجات على فيلم “براءة المسلمين” بالقرب من السفارة الأمريكية.
لا يأتي الضغط على الصحفيين من الجهات الفاعلة الدينية فقط بل ومن سلطات الدولة أيضاً التي تخلط بين تغطية أخبار الجماعات المتطرفة والمشاركة في أفعال التطرف الديني. ففي حزيران/ يونيو 2011، على سبيل المثال، اعتُقل مراسل محطة ‘بي بي سي’ باللغة الأزبكية، أورينبوي أوزمونوف، في طاجاكستان وتمت إدانته “بالتطرف” بعد إجرائه لقاءً مع حزب التحرير وهو منظمة إسلامية محظورة. وعلى الرغم من الإفراج عنه بكفالة في تموز/ يوليو ومن ثم شموله بالعفو، إلا أن إدانته أرسلت رسالة مثبطة للمراسلين الذين يغطون أخباراً دينية حساسة.
في آذار/ مارس 2012، تلقى الصحفي النيجيري أحمد سلكيدا وهو صحفي مستقل غطى لسنوات أنشطة الجماعة الإسلامية، بوكو حرام، تهديدات بالقتل، وأعرب الصحفي عن شكوكه أن مصدر التهديدات هو عملاء الأمن التابعين للحكومة الذين اتهموه بأنه عضو في هذه الجماعة المتطرفة. وفي إثيوبيا، اعتقلت السلطات يوسف غيتاتشو مدير التحرير في صحيفة ‘يي مسلموتش غوتادي’ (شؤون إسلامية)، كما أنها علقت العمل في ثلاث محطات إخبارية مسلمة في آب/أغسطس بعد تغطيتها للاحتجاجات التي تعارض السياسات التي قال المسلمون إنها تتدخل في مؤسساتهم الدينية.
تزامن انبعاث التطرف الديني في بعض البلدان مع بروز تيار مضاد، وهو ظهور جيل جديد من الصحفيين المستقلين والمدونين وناشطي وسائل التواصل الاجتماعي. ويعمل هؤلاء الذين غالباً ما يحظون بالثناء كأبطال لحرية الصحافة العالمية، وفقاً لقيم ومعايير تجادل في المعتقدات الجامدة وتكسر المحرمات وتحقق بشأن كافة الأطراف الفاعلة الاجتماعية بما فيها الجماعات الدينية.
وذكر الصحفي المغربي المستقل، علي لمرابط، للجنة حماية الصحفيين أن “الكثير من هؤلاء الصحفيين في شمال أفريقيا يميل إلى أن يكون أكثر علمانية وتحرراً ومواكباً للثقافة الغربية وخاصة في الإعلام الفرانكوفوني”. كما أنه هؤلاء غالباً ما يُتهمون بأنهم خونة أو عملاء للغرب أو مرتدين عن الدين من قبل المتطرفين، وحتى من قبل الصحفيين من أصحاب العقلية العتيقة.
عمل الكثير من الإعلاميين في البلدان ذات الهويات الدينية القوية على نحو تقليدي بما يتفق مع المعايير الدينية السائدة أو انحازوا إلى جماعة دينية معينة. يقول مستشار منظمة هيومان رايتس ووتش أندريه هارسونو إنه “في غرفة أخبار إندونيسية عادية ينتسب معظم العاملين في الإعلام إلى هوية إسلامية وقومية”. وكتب ليو إغوي، عضو لجنة البحث بجامعة بايريوث الألمانية، يقول إن “الكثير من” الصحف في نيجيريا “التي تعد في بلادنا صحفاً قومية – سواء أكانت مملوكة للدولة أم خاصة – هي في الواقع صحف دينية. إنها عبارة عن امتداد للكنائس والمساجد هناك”.
أحياناً، يدعو الصحفيون الأكثر تطرفاً علانية إلى العنف ضد أولئك الذين يعتبرونهم كفاراً أو مرتدين عن الدين. ويقول آيدان وايت، مدير شبكة الصحافة الأخلاقية، إنه “توجد في باكستان انقسامات طائفية كبيرة في الإعلام. فعندما قُتل حاكم إقليم البنجاب، سلمان تاسير، وهو معارض علناً لقوانين التجديف وعدم احترام المقدسات، على يد حارسه الشخصي في كانون الثاني/ يناير 2011، أعرب صحفيون ظهروا في مقابلات تلفزيونية عن تأييدهم لقتله”.
يؤثر الانتماء الديني المفترض للصحفيين، في مثل هذه البيئة، على قدرتهم على إعداد التقارير بأمان. فمن شمال مالي إلى أفغانستان، ثمة مساحات شاسعة من الأراضي التي تُعتبر مناطق محظور دخول الصحفيين إليها، ولا يشعر المحررون بالقلق فقط من الخطر الجسدي الواضح الذي ينطوي عليه وجودهم على الأرض، بل ويخشون نشر الأعمال الصحفية أو الآراء التي قد تستعدي الجماعات الدينية المتطرفة وبالتالي تعريض مراسليهم في الميدان للانتقام.
أما المراسلون الغربيون فهم معرضون للخطر بصورة استثنائية حتى لو أصروا على أنهم محايدون. ويقول الصحفي المغربي لمرابط إن “المعتقد الديني المزعوم للمراسلين له أهميته في المناطق التي تعاني من صراعات دينية. فعلى العكس من زملائه/زميلاته الغربيين، لن يواجه الصحفي المغربي أية مشكلة في تغطية أخبار حماس في غزة. يتم السماح لمراسلي قناة ‘الجزيرة’، الذين يُنظر إليهم غالباً على أنهم مقربون من جماعة الإخوان المسلمين، بالدخول من قبل الجماعات الإسلامية المسلحة التي ترتاب ارتياباً كبيراً بالإعلام الغربي”.
كما يتم استهداف بعض الصحفيين انتقاماً من سياسات حكومتهم حتى؛ ففي عام 2004 أجبر مسلحون إسلاميون رهينتيهم الفرنسيين، كريستيان تشيسنوت من إذاعة فرنسا الدولية وجورج مالبرونوت من صحيفة ‘فيغارو’، على دعوة حكومتهما إلى إلغاء قانون يحظر على المسلمات ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية.
لا يشكل التهديد والعنف الجسدي الأسلوبين الوحيدين للهجوم على الصحفيين، فمطرقة القاضي قد تكون شديدة الفعالية في لجم وسائل الإعلام. وتعمل قوانين التجديف في كثير من أنظمة الحكم الأوتوقراطية، من السعودية إلى باكستان، على تقييد حرية التعبير تقييداً صارماً. وكتبت منظمة هيومان رايتس فيرست في دراسة أجرتها في آذار/ مارس 2012 تقول إن “قوانين التجديف توفر السياق الذي يمكن للحكومات فيه أن تمنع التعبير السلمي عن الأخبار السياسية أو الدينية، ومن ضمنها تلك المتعلقة بدور الدين في القانون والمجتمع والدولة. وعن طريق منع هذه الحريات الأساسية باسم حماية الدين من التشويه، تصبح الحكومات قادرة على خنق الجدل والنقاش الصحي للأفكار وأن تحدد بصورة أساسية الأفكار المقبولة من غير المقبولة”.
قد تتسم قوانين التجديف بالقسوة، ففي أوائل عام 2012 اعتقلت سلطات ماليزيا الصحفي السعودي حمزة كشغري لدى محاولته الفرار إلى نيوزيلندا ومن ثم سلمته إلى السعودية حيث من الممكن أن يواجه عقوبة الإعدام. وكان كشغري قد نشر رسائل تويتر اعتُبرت تجديفية. وغالباً ما تقدِم الاتهامات بتشويه الدين تبريراً جاهزاً لعنف العامة. فعلى صفحات فيسبوك، دعا آلاف الأشخاص إلى إعدام حمزة كشغري.
وفي أوروبا، حيث لا يوجد تقليد دستوري لحرية التعبير، لا تزال قوانين التجديف موجودة في كتب القانون في كثير من البلدان، وعلى الرغم من أن هذه القوانين هامدة إلا أنها توفر فرصة قانونية للذين يسعون إلى وضع حد لما يعتبرونه تعبيراً مسيئاً. من ناحية أخرى، يتم على نحو متزايد اللجوء إلى قوانين مكافحة خطاب الكراهية أو العنصرية كأدوات في الحرب على ما يدعى تشويه الدين. وفي هذا الصدد يقول آيدان وايت إن “هذه القوانين تذهب في بعض البلدان إلى ما هو أبعد من الحماية من الأذى الفعلي فتحرّم أية عبارات يُنظر إليها على أنها مسيئة”.
تحاول منظمة المؤتمر الإسلامي التي يبلغ عدد الدول الأعضاء فيها 57 عضواً، منذ سنوات فرض حظر عالمي من خلال الأمم المتحدة على “تشويه الدين” يفرض عقوبات على من ينتقدون أو يسيئون أو يستهزئون بالدين، وخاصة الدين الإسلامي. في أيلول/ سبتمبر 2012، وفي أعقاب الغضب الذي أثاره فيلم “براءة المسلمين” أطلقت منظمة المؤتمر الإسلامي حملتها من جديد ضد ما دعته “عمليات إساءة الاستغلال المتعمدة والممنهجة لحرية التعبير”.
ليست الخشية من القانون، على أية حال، العامل الوحيد الذي يقيّد الصحفيين، فكثير من صحفيي التيار السائد يحرصون على عدم اتهامهم بالتحريض على الكراهية أو مخالفة القواعد الأخلاقية أو الإساءة إلى المشاعر الدينية وخاصة في سياق عودة الحياة إلى حركات أقصى اليمين التي تقدم نفسها على نحو تعسفي على أنها مناصرة لحرية التعبير. وذكرت بياترس ديلفو، رئيسة التحرير في صحيفة ‘لو سور’ الليبرالية التي تصدر في بروكسل، للجنة حماية الصحفيين أن “بعض السياسيين، خاصة من اليسار، يسارعون إلى اتهامنا بالتحريض على الكراهية عندما نغطي قصصاً صحفية يُعتقد أنها لتصوير الإسلام أو أقلية إثنية بصورة سلبية. ويتردد بعض الصحفيين في تغطية قضايا مثل صعود الأصولية أو الجريمة أو التحرش الجنسي بالنساء في أحياء المهاجرين، خشيةً من خدمة أهداف اليمين السياسي على نحو غير مباشر”.
في آذار/ مارس 2012، أشار بول بيرمان في صحيفة ‘ذا نيو ريبابليك’ إلى “موضة منتشرة في أرجاء العالم هي الرقابة الذاتية الطوعية بالكامل – وهي عادة التقليل من أهمية موضوعات معينة يُعتقد أنها حساسة، أو حتى الامتناع عن التفوه بكلمات معينة مثيرة للجدل”.
يعمد بعض المتطرفين إلى تطبيق العقوبة بأنفسهم على ما يتم تصوره تجديفاً؛ فقد استُهدف رسام الكاريكاتير الدانمركي، كيرت ويستغارد الذي رسم صورة النبي محمد وهو يحمل قنبلة في عمامته، بعدة محاولات للقتل. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، هوجمت مكاتب مجلة ‘شارلي إبدو’ الفرنسية الساخرة بالقنابل الحارقة بعد إصدارها عدداً بعنوان “شريعة هيبدو” حيث زيّن غلافها برسم كاريكاتيري يصور النبي محمد يهدد قائلاً “100 جلدة إن لم تمت من الضحك”.
تخلق المعادلة الدقيقة بين الالتزام بممارسة الصحافة المسؤولة والخوف من التنازل عن حيز كبير جداً للجماعات الدينية انقساماً داخل المجتمع الصحفي. هذا التوتر – الذي اتسم أصلاً بالدرامية في الجدل الذي دار حول كتاب سلمان رشدي ‘آيات شيطانية’ الذي صدر أواخر الثمانينيات من القرن الماضي – فاقم من حدته الغضب الذي أثارته الرسوم الكاريكاتورية في عامي 2005 و2006. فنشر صحيفة ‘جيلاندز-بوستن’ للرسوم الكاريكاتيرية للنبي محمد لم يتسبب فقط في نشوء عاصفة عالمية بل أدى إلى انقسام حاد في عالم الصحافة. فقد وقفت بعض وسائل الإعلام بقوة خلف الصحيفة الدانمركية باسم حرية التعبير، بل إنها نشرت بعضاً من الرسوم كنوع من التضامن. إلا أن معظم وسائل الإعلام قررت عدم نشر الرسوم. وكتبت صحيفة ‘نيويورك تايمز’ في افتتاحية عددها الصادر في 7 شباط/ فبراير 2006، تقول إن “ذلك يبدو قراراً عاقلاً بالنسبة للمؤسسات الإخبارية التي تحجم عادة عن الاعتداء الذي لا مبرر له على الرموز الدينية لا سيما وأن وصف الرسوم الكاريكاتيرية بعبارات أمر في غاية السهولة”. أما ويليام بينيت وألان ديرشويتس فقد عارضا بقوة في مقالة رأي نشرتها صحيفة ‘واشنطن بوست’، حيث كتبا يقولان “بكل بساطة، لقد كسب المتشددون الإسلاميون حرب التخويف”.
وعندما نشرت مجلة ‘شارلي إبدو’ الأسبوعية الفرنسية الساخرة في أيلول/ سبتمبر 2012 الرسوم الكاريكاتيرية للنبي محمد، وكان بعضها فاحشاً، في خضم الغضب العارم حول فيلم “براءة المسلمين”، عملت القضية من جديد على إحداث تصدع عميق في المهنة. فقد انتقدت صحيفة ‘لا كرو’ اليومية الكاثوليكية بشدة مجلة ‘شارلي إبدو’ على “هوسها بالعداء للدين” و “استفزازها”، بينما دافعت صحيفة ‘ليبيراسيون’ ذات الميول اليسارية عن حرية الكتابة الصحفية وشددت على أن “الطريق بين الرقابة الذاتية والاستسلام التام قصيرة بشكل استثنائي وهي طريق بلا عودة”.
وسط هذه المخاوف والإشكاليات، طرح عدد من جمعيات الصحفيين والشركات الإعلامية والمؤسسات مشاريع عدة لمعالجة مسألة تغطية شؤون الدين. ففي عام 2012، مثلاً، أنشأ المركز الدولي للصحفيين الذي يتخذ من الولايات المتحدة مقراً له، جائزة التغطية الصحفية الدينية تكريما لكريستيان أمانبور، التي عملت مراسلة دولية فترة طويلة وعضو مجلس إدارة لجنة حماية الصحفيين. كذلك ساعد المركز في إنشاء الرابطة الدولية للصحفيين المتخصصين في تغطية الشؤون الدينية. وأصدر معهد التنوع الإعلامي، ومقره في لندن، بالاشتراك مع الاتحاد الأوروبي للصحفيين ومنظمة ‘المادة 19’المؤيدة لحرية الصحافة، ومقرها في لندن، كتيباً مفصلاً حول إعداد التقارير عن الإثنيات والدين.
وتدعم هذه المبادرات التفاهم بين الثقافات وتعزز التغطية المراعية لحساسية النزاعات وتوفر مبادئ إرشادية حول إعداد تقارير التغطية المتعلقة بالتنوع. ويقول الصحفي التنزاني إيريك كابنديرا إن “ذلك يعتبر جزءاً مهماً من كونك صحفياً؛ أن تكون قادراُ على استخدام مهاراتك كي تقول للناس إنه ينبغي الاستفادة من الدين كعامل توفيق وليس عامل تفريق”.
لكن بعض الصحفيين يؤكد على أن التحلل من الالتزام بتغطية شأن معين من منطلق الخوف من الإغضاب أو التعرض للأذى لا يعد خياراً. وتقول ديلفو، رئيسة تحرير صحيفة ‘لو سور’، “إننا واعون تماماً للحساسية الخاصة التي تتسم بها القضية الدينية ونحن نتوخى درجة استثنائية من العناية بأخذ الاستشارات على نطاق واسع عندما نتوقع إثارة الخلافات، ولكن ينبغي لتلك التقارير أن تُنشر”.
إن الصحافة مدعوة لتأكيد استقلاليتها وحريتها من أجل القيام بدورها الأكثر جوهرية. ويقول جون أوين، مدير تحرير نشرات الأخبار في محطة ‘سي بي سي’ سابقاً، إنه “لا يمكنك ترك السلفيين أو غيرهم يضعون لك الأجندة الإخبارية، كما أنك لا تستطيع الحصول على هذا النوع من التغطية الصحفية عن طريق التعاقد الخارجي” مع صحفيين مستقلين. ويمضي قائلاً إنه”يتعين على الصحافة أن تتحمل مسؤولياتها. يجب عليها أن تتبنى الإجراءات التي تتيح لها تغطية هذه القضايا والخلافات على نحو نزيه وجدي، وذلك من خلال المثابرة على تقييم المخاطر وإعداد المراسلين للخطوط الأمامية والتعامل مع الخطوط الحمراء”.
جان بول مارثوز مستشار متقدم لدى لجنة حماية الصحفيين وصحفي وكاتب بلجيكي. وهو كاتب عمود في الشؤون الخارجية في صحيفة ‘لا سور’ وأستاذ في الصحافة بجامعة (Université de Louvain-la-Neuve).