أدت التغييرات السياسية التي حدثت في الشرق الأوسط إلى تغيير هائل في ظروف العمل للصحفيين. وتجنح هذه الاتجاهات الناشئة نحو حرية التعبير إلا أنها مليئة بأوجه من الغموض. وستعتمد الكثير من الأمور على الترتيبات السياسية التي ستنبثق بعد أن يهدأ غبار الثورات. بقلم محمد عبد الدايم
بقلم: محمد عبد الدايم
أثناء محاكمة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، صدر حظر يمنع وسائل الإعلام المصرية المطبوعة من تغطية الشهادة التي أدلى بها الرئيس الفعلي للدولة، المشير حسين طنطاوي. وقد ناقض طنطاوي في شهادته ما ورد في بيان عام أصدره الجيش سابقا أفاد فيه إنه عصي الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين. ورغم الحظر المفروض، قام المدونون بتغطية هذه الشهادة على مدوناتهم إضافة إلى أشخاص آخرين غطوها عبر موقع تويتر. ومع انتشار الخبر، استغلت وسائل الإعلام التقليدية الفرصة وبدأت بنشر تغطية خاصة بها ما كان يمكن أن تنشرها لولا ظهورها على وسائل الإعلام الإلكترونية.
وقال ياسر الزيات، وهو صحفي ومحاضر ومحلل مصري، “عملت وسائل الإعلام الجديدة في هذه الحالة على الدفع بالتدفق الحر للمعلومات لإنها غير مكبلة بالقوانين التقييدية التي تعيق عمل الصحفيين المحترفين في جمع الأخبار. وبالتالي تمكنت وسائل الإعلام المطبوعة من توفير عمق لهذه القضية التي كانت ممنوعة أصلاً من تغطيتها”.
لقد ظلت وسائل الإعلام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتجه ببطء نحو التعددية خلال السنوات الأخيرة، وقد ساهمت خلال عام 2011 في زعزعة الأنظمة الاستبدادية الراسخة وسقوط بعضها. وبالتالي، أدت التغييرات السياسية الهائلة التي حدثت في المنطقة إلى تغيير ظروف العمل الصحفي بطرق ما كان يمكن تصورها قبل سنة من ذلك. ويمثل التقاء وسائل الإعلام التقليدية ووسائل الإعلام الجديدة أحد الاتجاهات الرئيسية التي انبثقت بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي في تونس في بدايات عام 2011.
وفي حين تجنح هذه الاتجاهات نحو حرية التعبير، إلا أنها مليئة بأوجه من الغموض. وسيعتمد الكثير من الأمور على الترتيبات السياسية التي ستنبثق بعد أن يهدأ غبار الثورات. وفي هذه الأثناء – ولأن السيطرة على السرد الوطني في البلدان المختلفة سيحدد مدى نجاح أو إخفاق الانتفاضات الشعبية في المنطقة – سيجد الصحفيون أنفسهم مستهدفين بتهديدات جديدة ومتواصلة التطور. وفيما يلي خمس نزعات يجدر مراقبتها:
التقاء وسائل الإعلام الجديدة والتقليدية: لقد كان بروز مقاطع الفيديو التي يلتقطها المواطنون أمراً أساسياً لقدرة وسائل الإعلام التقليدية على تغطية الثورات. ومن ناحية ثانية، لو لم تجد هذه المقاطع المصورة طريقها إلى وسائل الإعلام التقليدية، وخصوصاً القنوات التلفزيونية، ربما كانت جذوة الثورة التونسية ستنطفئ. وقال مراد هاشم، مراسل قناة ‘الجزيرة’ في نيويورك ومدير مكتبها السابق في اليمن والتي بثت قدرا كبيراً من المقاطع المصورة التي التقطها المواطنون، “ما كان بإمكان وسائل البث الإعلامية أن تغطي الانتفاضات العربية على نحو كافٍ دون المساهمات اليومية التي قدمها المواطنون في جهودهم الصحفية. وهذا يشكل مثالاً عملت فيه التغييرات التكنولوجية الثورية على تمكين الثورات الفعلية”.
لقد وفر هذا الالتقاء غطاءً سياسياً للمحررين في وسائل الإعلام التقليدية كي يتصدوا لموضوعات ظلت الحكومات تخفيها منذ أمد بعيد. وفي مقابلة أجرتها لجنة حماية الصحفيين في عام 2009 مع خالد السرجاني الذي كان حينها محرراً في صحيفة ‘الدستور’ اليومية المصرية، قال “عندما تثار قضايا معينة [من قبل المدونين] ومن ثم تجتذب الاهتمام، حينها يصبح من المستساغ أكثر أن نقوم نحن بتغطيتها”. وكان السرجاني في تلك الفترة يستفيد من وسائل الإعلام الجديدة بطريقة أخذت تؤتي ثمارها الكاملة حالياً. وتنشر صحيفة ‘التحرير’، وهي إحدى صحف عديدة صدرت في مصر بعد سقوط نظام مبارك، بعضا من أهم المواد التي تظهر على موقعي فيسبوك وتويتر يومياً، وبعضها مواد مثيرة للجدل وتجتذب اهتماما شعبيا كبيراً. كما تتناول الصحيفة هذه الموضوعات ذاتها وبعمق أكبر في طي صفحاتها.
لقد أقرت السلطات بأن وسائل الإعلام الجديدة والمحتويات التي ينشرها المواطنون أصبحت سمات دائمة في البيئة الإعلامية. وينشر المجلس الأعلى للقوات الملسحة الذي يحكم مصر حاليا بياناته إلى الشعب المصري عبر صفحته على موقع فيسبوك فقط ولا ينشرها بأي وسيلة أخرى. بل الأمر الأكثر إزعاجا هو أن السلطات ووكلاءها أسسوا حضوراً على شبكة الإنترنت لترهيب وإسكات الأصوات المعارضة بين المواطنين والمدونين والصحفيين المحترفين. وهذه الممارسة على أشهدّها في سوريا والبحرين والسعودية، حسبما تظهر تقصيات لجنة حماية الصحفيين. وعادة ما يتعرض من يُعتبرون مناهضين للنظام لمضايقات وتهديدات أو ما هو أسوأ من ذلك. ففي سوريا وتونس، عمد المسؤولون الأمنيون إلى التحقيق مع النشطاء للحصول على كلمات المرور السرية لمواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، كما تم اعتراض بعض التواصل عبر الإنترنت لتحقيق الغاية ذاتها.
وقال رامي نخلة، وهو مدون وناشط سوري اضطر لمغادرة البلاد والعيش في المنفى، “ثمة عدد كبير وغير محدد من الأشخاص اعتقلوا في سوريا لأنهم ببساطة قاموا بنشر مواد اعتبرتها الحكومة بأنها مواد هدامة، ولكن مع الازدياد الكبير في عدد المعتقلين أخذت السلطات تركز أكثر فأكثر على الأشخاص الذين ينشرون أخبار أو تفاصيل عن الاحتجاجات المقبلة.
خطاب سياسي أوسع: لقد أدى تفكك الأنظمة السياسية المتحجرة في تونس ومصر وليبيا إلى تدشين موجة من المشاريع الصحفية الجديدة. ففي خلال بضعة أشهر، ظهرت ثماني قنوات تلفزيونية جديدة في مصر إضافة إلى مجموعة جديدة من الصحف من بينها صحف أسبوعية تحولت إلى صحف يومية. وشهدت ليبيا التي كانت خالية فعليا من وسائل الإعلام المستقلة موجة من الهيئات الصحفية الجديدة إذ انبثق فيها ما يزيد عن 100 مطبوعة و 30 محطة إذاعية وسبع قنوات تلفزيونية وعدة مواقع إخبارية ومدونات إضافة إلى مواطنين ناشطين في التغطية الصحفية. وفي تونس، منحت السلطات عشرات التراخيص لصحف جديدة، وفقاً لما أورده مشروع ‘تونس تنتخب’ الممول من الحكومة الألمانية. كما تأسست هيئة تنظيمية جديدة في تونس وقد وافقت على طلبات بتأسيس 12 محطة إذاعية وخمس قنوات تلفزيونية، إلا أن المحطات التلفزيونية لم تكن قد بدأت بالعمل بحلول نهاية العام لإن مكتب رئيس الوزراء لم يوقع بعد على الطلبات.
إن الأصوات البازغة هي “مؤشر على أنه لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء – ليس فقط في السياسة وإنما أيضاً في عمل الإعلام” على حد تعبير المحلل ياسر الزيات الذي أضاف “هذا التنوع يعكس تعدد الآراء الموجودة في المجتمع … حتى عندما تضاهي الفوضى وعدم النضج السياسي، وهي مظاهر موجودة أيضاً في المجتمع. فإن التعدد الإعلامي هو شرط مسبق للتعدد السياسي”.
لقد كان ظهور المعارضين البارزين للنظام مثل محمد البرادعي على شاشة التلفزيون الحكومي أو القنوات الخاصة أمرا مستحيلا خلال الأعوام الماضية، ولكنه أصبح شائعاً في مصر. وقد أصبح الناقدون البارزون للنظام من محللين سياسيين وكتاب مقالات ومحامين ومفكرين ونقابيين ومدونيين من شتى الانتماءات الفكرية ملمحا دائما في أوساط البرامج التلفزيونية. وقبل سقوط نظام مبارك لم يتمكن الصحفي والمدون والروائي المصري مسعد أبو فجر من نشر أعماله في وسائل إعلام التقليدي، كما أنه أمضى ثلاث سنوات في السجن. وفي عام 2011 كان مسعد أبو فجر ينشر مقالات بصفة منتظمة في الصحيفتين الشهيرتين ‘التحرير’ و ‘البديل’، كما نشر رواية وعمل على مناصرة قضايا المهمشين من بدو سيناء.
ولم يقتصر تعاظم ممارسة حرية التعبير على البلدان القليلة التي شهدت انتفاضات عارمة؛ فقد أخذ الصحفيون يتفحصون مدى احتمال السلطات للتمحيص الصحفي في أماكن مثل الأردن وموريتانيا والمغرب. وفي الكويت، غطت وسائل الإعلام بحزم فضيحة مالية يصل حجمها إلى مليار دينار كويتي (ما يعادل 3.6 مليار دولار أمريكي) تورط فيها أعضاء من البرلمان. وقد دفعت التغطية الصحفية المتواصلة في وسائل الإعلام التقليدية والجديدة الحكومة إلى البدء بتحقيق لا سابق له أدى في النهاية إلى إقالة رئيس الوزراء، وهو من أعضاء الأسرة الحاكمة، وإقالة مجلس الوزراء.
لكن القوى الانكفائية لديها الكثير لتخسره من تنوع وسائل الإعلام. ففي تونس، حيث تأخر إصدار تراخيص البث لوسائل الإعلام الخاصة، ظلت وسائل الإعلام الرسمية “إلى حد بعيد تستثني الأصوات المعارضة وظلت في قبضة بقايا النظام البائد” حسبما أفاد الفاهم بوكدوس، وهو آخر صحفي تم الإفراج عنه في تونس.
وفي مصر، كانت وسائل البث الجديدة تعمل دون ترخيص بحلول نهاية العام، مع أنها قدمت الوثائق الضرورية للحصول على التراخيص، مما يجعلها معرضة للمضايقات والإغلاق. وأفاد مدير أحد محطات البث أن السلطات أبلغته عدة مرات بأن الموافقة على الترخيص باتت وشيكة وأن بأمكانه مواصلة البث. بيد أن الشرطة أوقفت بث المحطة مرتين خلال أسبوعين، وهي قناة ‘الجزيرة مباشر مصر’ (وهي محطة محلية مرتبطة بقناة ‘الجزيرة’ التي تتخذ من قطر مقراً لها)، ويبدو أن عمليتي الإغلاق كانتا انتقاماً من المحطة بسبب تغطيتها الناقدة.
وفي وقت متأخر من العام، خلال المواجهات بين الحكومة العسكرية والمواطنين الذين ينادون بنقل أسرع للسلطة إلى مدنيين، تعرض الصحفيون المصريون العاملون في الصحف والقنوات التلفزيونية لضغوط للتخفيف من حدة الخطوط التحريرية. وقد تم إيقاف بث قناتي ‘أون تي في’ و ‘سي بي سي’ عدة مرات في كانون الأول/ديسمبر بينما كانتا تغطيان المصادمات. وقال المدون والروائي مسعد أبو فجر، “نحن نحقق الفوز بالكفاح من أجل حرية التعبير، ولكن ثمة الكثير من المقاومة. ونتيجة لذلك، لا توجد ضربة قاضية، ولكننا نفوز بالنقاط”.
تهديدات متواصلة التطور ضد الصحفيين: لقد أدت الثورات في المنطقة إلى تغيير طبيعة التهديدات التي تواجه الصحفيين. فقد تلاشت المحاكمات المسيسة والممتدة زمنيا المتعلقة بقضايا التشهير في مصر وتونس، في حين تصاعدت بشدة حالات الاعتداء والقتل خلال عام 2011. كما ازدادات حالات سجن الصحفيين في سوريا، حيث بلغ عدد الصحفيين المحتجزين بحلول نهاية العام ثمانية صحفيين، وكان ستة منهم دون توجيه أية اتهامات ضدهم. وقال مراد هاشم من قناة ‘الجزيرة’ “عندما تكون هناك ثورة على قدم وساق، تسعى الأنظمة لتحقيق نتائج سريعة – وفي تلك الحالات فإن المحاكم لا تكفي. ويصبح الضرب والتهديدات وحتى القتل هو العرف السائد في هذه الظروف”.
وباستثناء العراق، الذي ظلت الخسائر في الأوراح التي تحدث فيه تاريخيا تشوه البيانات الإحصائية بشأن عدد الصحفيين القتلى، قُتل 14 صحفيا واثنان من العاملين الإعلاميين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لأسباب متعلقة بعملهم خلال العام 2011. وإذا ما تركنا البيانات الواردة من العراق جانباً، فقد وصل العدد إلى أعلى مستوى إقليمي له منذ عام 1995. وفي ليبيا، حيث لم تسجل لجنة حماية الصحفيين سوى حالة قتل واحدة ذهب ضحيتها صحفي بين عامي 1992 و 2010، بلغ عدد القتلى في عام 2011 خمسة صحفيين. وشهدت كل من سوريا وتونس أول حالات قتل لصحفيين منذ بدأت لجنة حماية الصحفيين بالاحتفاظ بسجل مفصل في عام 1992. وفي البحرين، قتل صحفيان بينما كانا رهن الاحتجاز نتيجة لما وصفته الحكومة مضاعفات صحية، على الرغم من المزاعم واسعة النطاق بأن الصحفيين تعرضا للتعذيب.
إن ازدياد الخسائر في الأرواح بين الصحفيين هو التهديد الأكثر إثارة للقلق ضمن طائفة جديدة من التهديدات ضد الصحفيين، ومن بينها مئات من حالات الاختطاف والاعتداء والمصادرة وتخريب المعدات والأفلام المصورة، والتي عادة ما تحدث سعياً لقمع التغطية الصحفية للاضطرابات. وبنهاية الربع الأول من العام، تتبعت لجنة حماية الصحفيين ما يزيد عن 500 من هذه الاعتداءات، وحدث معظمها في تونس ومصر وليبيا أثناء الثورات التي حدثت بها. ووثقت لجنة حماية الصحفيين في مصر وحدها أكثر من 100 اعتداء في ذروة حملة القمع التي استهدفت الإعلام خلال الأيام القليلة الأولى من شباط/فبراير. كما تم توثيق اعتدءات في الأردن والمغرب والجزائر والعراق والسودان وموريتانيا والسعودية والكويت ولبنان.
وتواصلت الاعتداءات في البحرين وسوريا واليمن في وقت متأخر من العام وسط ظروف المواجهات بين جماهير المواطنين والأنظمة القمعية. وخلال أسبوع مضطرب في مصر في تشرين الثاني/نوفمبر، سجلت لجنة حماية الصحفيين 35 اعتداء تضمنت إصابة صحفيين بجراح ناجمة عن إطلاق رصاص، واحتجازات تعسفية، واعتداءات بدنية وجنسية، ومعاملة سيئة أثناء الاحتجاز، بما في ذلك منع الدواء.
وفي مصر ما قبل الثورة، كان الصحفيون في معظم الحالات يواجهون قضايا قانونية ملفقة تمتد لفترات طويلة، وأغلبها على خلفية قضايا التشهير والحسبة، وهي آلية قانونية تتيح لعملاء الحكومة رفع دعاوى قضائية بوصفهم مواطنين مهتمين بالمصلحة العامة. وكانت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، التي توفر تمثيلاً قانونيا للصحفيين، قد ترافعت في 220 قضية من هذه القضايا في عام 2010. وفي الأشهر العشرة الأولى من عام 2011 تم رفع 39 دعوى قضائية فقط. وقالت روضة أحمد، وهي محامية ومديرة الوحدة القانونية في الشبكة، “أن القضايا المسيسة أخذت تتزايد من جديد في وقت متأخر من العام، إذ بدء الصحفيون يكشفون حالات كبيرة من الفساد وسوء الإدارة”.
ظل الصحفيون التونسيون الناقدون يواجهون محاكمات غير عادلة ويودعون في السجون طوال 23 عاماً في عهد بن علي. ولكن منذ مغادرة بن علي في أواسط كانون الثاني/يناير، لم يُحاكم سوى صحفي تونسي واحد على خلفية قضية تشهير يبدو أنها تهدف إلى إسكات النقد. ولم تتقدم بالدعوى الحكومة أو وكالاؤها، بل مدعي شخصي رفع قضية ضد محرر صحيفة ‘الشعب’ ناجي الخشناوي لأنه ذكر اسمه في مقال حول الفشل في مساءلة الأفراد الأغنياء المرتبطين بنظام بن علي.
وتتميز التهديدات الجديدة بصعوبة التنبؤ بها مقارنة مع الرقابة التقليدية والدعاوى القضائية وحجب الإعلانات عن الصحف أو غيرها من الأساليب المألوفة. ففي ليبيا القذافي وعراق صدام حسين كان الصحفيون يعرفون ما ينبغي عليهم تحاشيه لكي يتجنبوا غضب الدولة. أما اليوم، ما عاد بيد صحفيي المنطقة سوى سيطرة ضئيلة على ما قد يجعلهم هدفا للمضايقات والاعتداءات البدنية والاحتجاز التعسفي أو ما هو أسوأ من ذلك.
الأطر القانونية والتنظيمية أخذت تتغير: لقد تم حل بعض الوكالات الحكومية في مصر وتونس التي طالما ظلت تستخدم لقمع المعارضة في الإعلام، أو أنها شهدت تغييرات هيكلية كبيرة تحت الضغط الجماهيري المستمر. إلا أن السلطات سعت للتراجع عن العديد من هذه المكتسبات بسبب عدم ارتياحها من سرعة تحرر الإعلام ومداه ومضامينه السياسية.
ففي مصر، تم إلغاء وزارة الإعلام في شباط/فبراير، إلا أنها عاودت الظهور في تموز/يوليو. كما تم في آذار/مارس حل جهاز مباحث أمن الدولة الذي ظل على امتداد عقود أسوأ عدو للصحافة، ولكن تم استبداله فورا بجهاز أمني شبيه، وهو جهاز الأمن الوطني. وفي آذار/مارس أيضاً سعى المجلس العسكري الحاكم بفرض رقابة واضحة على محرري الصحف، إذ طلب عدم نشر أي مواد تتعلق بالجيش إلا بعد الحصول على موافقة من وزارة الدفاع. ومنذ ذلك الوقت تم استدعاء صحفيين ومعلقين مرات عديدة لاستجوابهم بعد أن انتقدوا أداء الجيش عبر القنوات التلفزيونية أو الصحف. وفي أيلول/سبتمبر، أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن العودة إلى فرض قانون الطوارئ الذي كان سارياً في عهد الرئيس السابق مبارك، والذي يتيح محاكمة المدنيين، بمن فيهم الصحفيون، بمحاكم أمن الدولة.
وقال الصحفي المصري ياسر الزيات أن العديد من القوانين تقيّد حرية الإعلام في مصر، “وإذا لم نعالج هذه المواد القانونية التقييدية مباشرة – وهي تزيد عن 30 مادة في قانون العقوبات لوحده – فإننا سنظل منهمكين في تغييرات صورية حيث نحقق انتصارا هنا أو هناك دون حل المشكلة الجوهرية”. هذا النوع من التغييرات الصورية حدث في تونس أيضاً. فقد تم حل وزارة الإتصال التي طالما ظلت تستخدم لمضايقة وسائل الإعلام المستقلة، وذلك بعد بضعة أيام من سقوط نظام بن علي في كانون الثاني/يناير. إلا أن الدائرة الإعلامية التابعة لمكتب الوزير الأول نهضت من الناحية الفعلية بوظائف الوزارة، حسبما أفاد الصحفي التونسي الفاهم بوكدوس.
وفي سوريا، أعلنت الحكومة في آب/أغسطس أنها أقرت قانونا جديداً للإعلام من شأنه أن يحسن حرية الإعلام وأن ينهي ممارسة سجن الصحفيين. ولكن لجنة حماية الصحفيين وثقت عشرات الحالات التي جرى فيها احتجاز صحفيين وعزلهم عن العالم الخارجي وحالات لصحفيين أجانب جرى طردهم قبل إقرار القانون الجديد وبعده. وفي الأردن والمغرب والجزائر والعراق وموريتانيا (وهي جميعاً تشهد حركات احتجاجية) قدمت الحكومات بعض التنازلات في حين عمدت في الوقت نفسه إلى تشديد سيطرتها على مجالات تعتبر نفسها فيها عرضة للضغوط.
وقال الصحفي مراد هاشم من قناة الجزيرة، “تتواصل البنية القانونية القمعية في جميع أنحاء المنطقة، إلا أن قدرة الحكومات على فرضها ضعفت في حالات عديدة، لذا تجد السلطات نفسها مضطرة أحيانا لتعديل قواعدها، ويعود ذلك بصفة جزئية لرغبتها بإعطاء الانطباع بأنها قدمت تنازل ما، وأيضاً لحرمان الصحفيين من العمل تحت ظروف مألوفة”.
أقر ملك الأردن، عبدالله الثاني، إصلاحات دستورية محدودة في أيلول/سبتمبر يتعلق معظمها بالأحزاب السياسية والانتخابات، وذلك سعياً لاحتواء الاحتجاجات المتزايدة. وفي الوقت نفسه، أقر مجلس النواب مشروع قانون لمكافحة الفساد من شأنه أن يترك أثراً رهيباً على الصحافة التحقيقة إذ يفرض غرامات باهضة على نشر معلومات حول الفساد. وبالمثل، أقرت السلطات المغربية عبر استفتاء عام إصلاحات دستورية لبت قليلاً من المطالب الشعبية للنهوض بالتعددية، ولكن لم يكن لها سوى أثر ضئيل على الحريات الإعلامية. وقبل ثلاثة أسابيع من الاستفتاء العام أصدر القضاء حكما على المحرر الصحفي الناقد رشيد نيني بالسجن لمدة عام على خلفية اتهامات بمناهضة الدولة، وهي اتهامات وجدت لجنة حماية الصحفيين بأنها لا تستند إلى أي أساس.
وفي جهد آخر لإخماد الاضطرابات الشعبية، أعلنت الحكومة الجزائرية عن حزمة من الإصلاحات المقترحة تتناول طائفة من الأمور، ومن بينها السماح بإنشاء قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية خاصة، وتأسيس لجنة لتنظيم الإعلام بدلاً من وزارة العدل، وإنهاء أحكام السجن ضد الصحفيين الذين يدانون بتهمة التشهير. ولكن هذا الإجراء الذي أقره البرلمان في كانون الأول/ديسمبر تضمن أيضاً ما يزيد عن 30 مادة مصاغة على نحو غامض يمكن أن تستخدم لتقييد حرية الصحافة ومعاقبة التغطية الصحفية الناقدة.
وفي موريتانيا، وبعد أسابيع من الاضطرابات الشعبية، رفعت الحكومة في أيلول/سبتمبر الحظر عن وسائل البث الإعلامية الخاصة لأول مرة في تاريخ البلاد، ولكنها وضعت عوائق مالية وإدارية كبيرة اعتبرها العديد من الصحفيين المحليين بأنها مواصلة لاحتكار الحكومة لوسائل البث الإعلامي عبر وسائل أخرى. كما أقر البرلمان قانوناً يلغي أحكام السجن ضد الصحفيين الذين يدانون بإهانة الرئيس ورؤساء الدول الأجانب والهيئات الدبلوماسية الأخرى، واستبدل القانون أحكام السجن بغرامات مالية باهظة.
نشوء جماعات معنية بالحريات الإعلامية: امتد ظهور الأصوات الجديدة كي يشمل جمعيات تسعى لتمثيل الصحفيين، فقد بدأ عدد من المنظمات الجديدة والمنظمات التي كانت مهمشة سابقاً برفع صوتها دفاعا عن الحريات الإعلامية.
أجرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين مؤخراً انتخابات استعادت فيها معظم قيادتها القديمة التي كان نظام بن علي قد أقالها في عام 2009 جراء حملة ترهيب متواصلة. وقد حصلت الجماعة المعنية بالدفاع عن الحريات الصحفية، وهي ‘المرصد الوطني لحرية الصحافة والنشر والابداع’، على ترخيص للعمل بعد فترة وجيزة من مغادرة بن علي، وكانت هذه المجموعة قد تأسست في عام 2001 ولكن تم حظرها فور تأسيسها تقريباً. كما حظر النظام السابق اللجنة التونسية لحماية الصحفيين التي تأسست عام 2008، وقد أعيد تأسيسها في شباط/فبراير وحصلت على ترخيص بالعمل تحت اسم جديد وهو المركز التونسي لحرية الصحافة. وعملت منذ ذلك الوقت على توثيق التهديدات الناشئة التي تواجها الصحافة في جميع أنحاء تونس.
وفي مصر، ظلت العضوية في نقابة الصحفيين المعترف بها رسميا محصورة على الصحفيين العاملين في وسائل الإعلام المطبوعة، ولذلك بدأت عدة جماعات تعمل على تأسيس هيئات بديلة لتمثيل الصحفيين العاملين في وسائل الإعلام الأخرى. وفي نيسان/إبريل، شكل ما يزيد عن 30 من منظمات حقوق الإنسان والاتحادات العمالية والمنظمات البحثية إضافة إلى عشرات من مناصري حرية الصحافة ‘الائتلاف الوطني لحرية الإعلام’ الذي يسعى لتحسين ظروف العمل للصحفيين، وخصوصا عبر إصلاح التشريعات التي طالما ظلت تستخدم لتقييد التغطية الصحفية.
وفي مملكة البحرين في الخليج العربي، يزعم النقاد بأن جمعية الصحفيين البحرينية المعترف بها رسميا كانت دائماً غير مؤثرة، إلا أن الجمعية تنفي هذا الزعم. وقد تأسست مؤخراً مجموعة جديدة لتمثيل الصحفيين داخل البحرين وأولئك الموجودين في المنفى، وهي رابطة الصحافة البحرينية التي تتخذ من لندن مقراً لها، وقالت الصحفية البحرينية ندى الوادي، وهي عضوة في مجلس أمناء الرابطة، للجنة حماية الصحفيين بأن الجمعية المعترف بها من قبل الحكومة “لم تمثل أبداً المشاغل الحقيقية للصحفيين العاملين”، وتحاول الرابطة تغيير هذا الواقع. وكان أول مشاريع الرابطة إصدار تقرير مؤلف من 60 صفحة يفصل مئات الاعتداءات التي تعرضت لها وسائل الإعلام المحلية والدولية في البحرين بين شهري شباط/فبراير وأيلول/سبتمبر.
وقالت ندى الوادي، “إن رابطة الصحافة البحرينية ليست مؤيدة للمعارضة أو مناهضة لها، وإنما هي مؤيدة للتغطية الإعلامية”.
محمد عبد الدايم منسق برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في لجنة حماية الصحفيين. وهو مؤلف تقرير “المدونون في الشرق الأوسط: نبض الشارع يدخل إلى شبكة الإنترنت” الذي صدر عن لجنة حماية الصحفيين في عام 2009.